بدأت مشكلة اكتظاظ المدارس بالطلبة فوق طاقتها الاستيعابية منذ بداية تسعينيات القرن الماضي إثر حرب الخليج، وعودة مئات الألوف من الأردنيين من دول الخليج. وهي مشكلة لا تقتصر على المدن بل امتدت إلى القرى والأطراف. وبقيت معالجات وزارة التربية والتعليم قاصرة لاهثة لحل هذه المشكلة، وهي معالجات أشبه بالمسكنات أو المسكتات، ولم تقم بإجراءات جذرية تنهي المشكلة، وتقضي على آثارها السلبية على مجمل العملية التعليمية والتربوية.
وهذه المشكلة لا علاقة لها بالطلبة السوريين أو طلبة المدارس الخاصة، فالمشكلة قديمة كما أسلفت، وزادتها الأزمة السورية تفاقماً. أما الانتقال من المدارس الخاصة إلى الحكومية فهي حركة طبيعية متوقعة لأكثر من سبب، ليس منها بالتأكيد أفضلية المدارس الحكومية، وهي حركة يجب أن تؤخذ بالحسبان مسبقاً. وأظن أن الحركة المعاكسة متوازنة وبنفس المقدار.
وزارة التربية تعلم حق العلم أن الحل ببناء عدد كافٍ من المدارس، ولكنها تماطل في هذا الحل، بحجج واهية لا تليق بالدول التي تحترم نفسها، فالعامل المادي لم يكن يوماً عائقاً لبناء الدول التي تريد، خاصة ونحن نتحدث عن بناء جيل المستقبل، ولكن الوزارة تفضل أن تخسر جيلاً وأن نخسر مستقبلاً على أن تخسر بضعة ملايين فحسب.
إن من من السهل إيجاد المبررات للهروب من حل المشكلة وترحيلها، ولكن المطلوب علاج المشكلة وليس الاكتفاء بالتذاكي والتباكي ولطم الخدود وإلقاء اللوم على الآخرين، فمن قبل المسؤولية يجب أن يقوم بها على أكمل وجه أو فليرنا عرض أكتافه.
إن مشكلة اكتظاظ الصفوف بأعداد مهولة تتجاوز الخمسين وربما الستين، لا تقتصر أضرارها على صعوبة عملية التعليم، وصعوبة ضبط الطلبة، وتحميل المعلم مزيداً من الأعباء والمسؤوليات، والضغط على مرافق المدرسة وخاصة الوحدات الصحية، بل تتعداها إلى آثار سلوكية وأخلاقية لا يمكن التحكم بها أو ضبطها، واسألوا الخبراء والمختصين عن الآثار المدمرة لاكتظاظ الطلبة في الصفوف والمدارس!
إن الوزارة بتراخيها في حل مشكلة اكتظاظ الصفوف تقامر بطلابنا ونوعية تعليمهم وأخلاقياتهم وسلوكياتهم ومستقبلنا.
أي تعليم نرجوه من صفوف تزيد عن 50 طالباً وقد تصل إلى 60 طالباً في غرفة صفية مصممة لأربعين طالباً في أحسن الظروف، ومرافق صحية لا تفي بحاجة نصف طلبة المدرسة، وساحات تتكدس بالطلبة، ومعلمين لا يلومهم أحد إذا شدوا شعورهم ومزقوا قمصانهم حنقاً وغيظاً وقهراً من ظروفهم غير المعقولة وغير المقبولة.
لقد تحول دور المعلم ببركات الوزارة من تدريس الطلبة إلى محاولة ضبط الطلبة وحل مشاكلهم ومتابعة غيابهم، تحول المعلم للأسف إلى عريف للصف، بل هذا ما يرجوه بعض مديري المدارس من معلميهم.
وأعجب كيف تتشدد الوزارة في شروط المدارس الخاصة وتتساهل في شروطها، وهي أشبه بباصات مؤسسة النقل العام سابقاً، فهذه الباصات مسموح لها أن تحمل ما شاء لها من الركاب جلوساً ووقوفاً وعلى جنوبهم، ولكنها تخالف الباصات الأخرى إن نقلت أي راكب زيادة. إن الطلبة في المدارس الحكومية والخاصة هم أبناء هذا الوطن ورصيده الحيوي، ولذا لا يجوز الكيل بمكيالين، بوضع شروط هنا، وإهمالها هناك.
للأسف الشديد أن وزارة التربية والتعليم:
- تفتقر إلى الدراسات الحقيقية للاحتياجات وتفتقر إلى التخطيط المبني على الواقع، ولا يوجد لديها أي رؤية مستقبلية حقيقية واقعية.
- تتقن سياسة ترقيع حل المشكلات مما يؤدي إلى تفاقمها، ولا تعمل على تجنب المشكلات أو حلها جذرياً إن حدثت.
- تفتقر إلى قيادات تربوية حقيقية، بينما تكتظ بموظفين برتبة رئيس قسم، مدير مساعد، مدير ترببة، مدير إدارة، وأمين عام ووزير في كثير من الأحيان.
ولا زلت أذكر شكوى مدير مدرسة عندما اتصل بمديره من تكدس 55 طالباً في إحدى الشعب، ووجود بعض الطلبة دون مقاعد، بعد الاستعانة بمقاعد المعلمين، فأجابه ببرود شديد: دعهم وقوفاً حتى نجد لهم مقاعد.
ومدير تربية اقترحت عليه فكرة تحويل مدرسة إلى فترتين، فجفل وقال: الوزارة تفتخر بالتقليل من مدارس الفترتين، وتريد أن نزيدها!
إن مشكلة الاكتظاظ تتطلب إعلان حالة الطوارئ في وزارة التربية والتعليم، واللجوء إلى حلول جراحية عاجلة، وعلى رأسها اللجوء إلى نظام الفترتين لبعض المدارس، والاستعانة بالمباني الجاهزة، واستئجار المدارس، وإعادة توزيع الطلبة في بعض المناطق.
ويبقى الاكتظاظ مشكلة تفت في عضد التربية والتعليم إلى جانب غيرها من المشكلات التي تعاني منها المدارس ومنها نقص المعلمين، وضعف البنية التحتية والتجهيزات، والمناهج التلقينية، والترهل الإداري، وغياب مبدأ المساءلة، ... الخ.
إن وزارة التربية والتعليم بحاجة إلى مجاهدين لا معاقين، وإلى مخلصين لا مدعين، وإلى رجال لا أشباه رجال. وبناء الأمم العظيمة يحتاج إلى همم تعانق السماء، وسواعد لا تعرف الكلل، وعقول ترتقي بالعمل، وقلوب تفيض رقياً وإنسانية.
موسى إبراهيم أبو رياش
mosa2x@yahoo.com