رؤية الجنرال الحاكم في مصر " السيسي " أمام ضريح رئيس مصر السابق جمال عبد الناصر جعلني أعود إلى الماضي قليلا ..ولا أنكر أنني ربما كنت دائما مشوشا ولست واضحا , بل وكثيرا ما كنت أكون متناقضا عندما يدور الحديث حول " جمال عبد الناصر " , فشخصية الرجل وتاريخه وتأثيره في المنطقة العربية والمعلومات الغير واضحة التي تصلنا عنه كانت جميعها تصب في قناة واحدة, له ولكثير من الزعماء العرب الآخرين والتي ليس لها سوى عنوان واحد هو " التشويش " .
ولا بد ان أذكر أن نظرية المؤامرة أيضا تشغل حيزا كبيرا من تفكيرنا , وهذا ليس بمستغرب أو بعيد عن أمة ليس فيها مؤسسات تحكم وترسم , ورؤسائها يجتمعون دائما إجتماعات ثنائية مغلقة مع ضيوفهم الرسميين قبل بدء الإجتماعات الرسمية العامة , وكثير من هؤلاء _ الرؤساء يحبون الوصول إلى السلطة في ساعات الليل وليس في وضح النهار , بحيث عندما كنا نصحوا صباحا ,نسمع في الإذاعات أن رئيسا جديدا في بلد عربي جاء وآخر قد هرب أو قتل أو سحل هو وأفراد عائلته جميعا .والسؤال الذي يراود العرب دائما هو هل هذا الرئيس الجديد مخلص أو عميل , وكذلك ما هي مدى اتصالاته مع الغرب والشرق وعادة تختلف الآراء حوله , وهذا كله من واقع الأمر في البلاد العربية .
الشعب العربي كان وما زال متعطشا ل " زعيم " ولذلك فليس غريبا عليه أن يحاول خلق هذا الزعيم بين الحين والآخر حتى يكتمل الحلم أو يكاد .. وعندما جاء " عبد الناصر " في ساعات الظلام ليحكم مصر في انقلاب " ابيض " مع مجموعته الإنقلابية عام 1952 م, كان أول ما فعله هو إصدار صفة " الثورة " والثوار على جماعته .. واللقب في بلادنا العربية سهل ورخيص , والزعماء هنا يطلقون على أنفسهم ما شاءوا من الصفات , فأحدهم قائد ثورة وآخر خليفة وآخر أمير مؤمنين وآخر القائد الملهم وبعضهم القائد المؤمن وثالث الزعيم الخالد و ..و ..و .. و .. الخ .وليس "عبد الناصر " هو الوحيد فقد كان " صدام حسين " للبعض زعيما ثائرا , وصواريخه على تل أبيب كانت أملا للأمة حسب رأي قد لا يجمع عليه الجميع .
لا يختلف اثنان على أن " الرئيس جمال عبد الناصر " كان ذو " كارزما "خاصة جعلت عددا كبيرا من الشعب المصري يحبه برضاه أو بغير رضاه , فقد أنشأ دولة بوليسية كان فيها ل" زوار الفجر " اليد العليا في البلد وذلك طبعا بحجة إسرائيل والصراع العربي الصهيوني وقام بتغييرات في بنية الدولة أزال فيها حكم الإقطاع من مصر وألغى الحياة الحزبية التي كان يمتلك زمامها الأثرياء من الشعب المصري .. وعشق عبد الناصر كان في بلاد عربية أخرى يزيد عن عشق المصريين " او من أحبه منهم " له ولشخصه .. وزادت أحلام الأمة العربية في وطن عربي واحد في عهد عبد الناصر , وأصبح تحرير فلسطين مجرد وقت وليس مبدأ ..ورمي اليهود في البحر من أجل الأسماك المسكينة الجائعة في المتوسط هو النهاية لهؤلاء المحتلين الجبناء .. أما الشعب الفلسطيني المغلوب على أمره فكان الأكثر ولها وعشقا لهذا القائد المنتظر خليفة صلاح الدين الأيوبي واقترب عشقه للرئيس حدا لا يوصف .
في عهد وفترة حكم عبد الناصر كانت هناك أحداث فاصلة ومؤثرة في الوضع العربي العام وأهمها العدوان الثلاثي على مصر بعد تأميم قناة السويس , ثم الجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسوريا ثم الحرب في اليمن وأخيرا نكسة 67 وحرب الإستنزاف ووفاته في نهاية أيلول وبعد محاولة المصالحة في حرب الأردن بين الفدائيين والملك حسين عام 1970 .
وإذا نحينا العاطفة جانبا , فلن نرى في جميع هذه الأحداث سوى الفشل والهزيمة , فالعدوان الثلاثي على مصر انتهى باحتلال القناة ومدنها ولم تنسحب القوات الا بتدخل وانذار من ايزنهور الرئيس الأمريكي آنذاك . والإتحاد بين مصر وسوريا انتهى بعد سنتان بشكل جعل أمل الأمة في الإتحاد بعيد المنال , والتدخل في اليمن جر الويلات على الجيش المصري والشعب اليمني وانسحبت القوات المصرية بعد أن استوعبت القيادة خطأ التدخل وتسببت في الكثير من القتلى والمعاقين , ونكسة ال 67 لا نزال نعاني من ويلاتها وفضائحها حتى الآن .
لا أستطيع أن أحكم على القيادة والقائد بالنوايا فقط , فنحن لا نحكم على نوايا " جمال عبد الناصر " ولكننا نحكم على نتائج أعماله وكانت كلها أو جلها سلبية على مصر وعلى الأمة العربية ..ومع ذلك أجدني مشوشا في الحكم عليه وتراني " عاطفيا " أضعه في مرتبة تختلف عن الزعماء العرب الآخرين , فأنا أرى أن " السد العالي " في مصر وإتاحة التعليم في الجامعات لجميع الشعب المصري كانت من حسنات نظامه .. وكذلك أرى أن الحلم العربي الذي ولد " حتى لو كان وهما " في عهد عبد الناصر هو حلم جميل في هذا الزمن "الرديء".
لا أظن أن هناك تشابها بين جنرال مصر الجديد والرئيس عبد الناصر , ولا أظن أن " السيسي " يملك الكارزما التي كان يحظى به الرئيس جمال , ومحاولة تقليد الرئيس السابق هي بداية غير موفقة لزعيم قد يحكم مصر في عام 2014 .. والشعب المصري في سنوات ما بعد " عبد الناصر " كان ينظر إلى السادات وليس إلى عبد الناصر على أنه الزعيم الأفضل في الستين سنة الأخيرة .. والسيسي سيجبر الشعب المصري أن يعود من جديد ليغير آراء لطالما غيرها هذا الشعب في السنوات الثلاث الأخيرة حتى أصبح لا يدري ماذا يريد ولماذا يريد ما طلبوا منه أن يريد ...فارحموا هذا الشعب .