أصبح مطلب التغيير اليوم هاجسا عند الناس جميعا صغيرهم وكبيرهم ،وذكرهم وأنثاهم ،وباتوا متفقين على بعض مجالاته ،ويجمعهم على هذا الاتفاق الواقع الذي يعيشونه ،والظروف التي تعترضهم في مختلف نواحي حياتهم ،حتى تأصل فيهم الشوق لكي يقتنعوا بحقيقته وصدقه في واقعهم إلى رؤية نتائجه في معاشهم قريبة غير موعودة .
ولربما يكون هذا واقعيا إلى حد غير بعيد ،لكنني أجد أن هناك مجالا هاما لا نصل إلى التغيير المنشود إلا من خلاله ،وقد عده بعضهم ثانويا ، أو يأتي لا حقا ، وأعده رئيسيا ويأتي أولا أو مواكبا .
إن التغيير الحقيقي الذي يجب أن يلمسه الناس لكونه منغمس في معين حياتهم هو الفهم الصحيح للإسلام ،وإثراء معرفة الناس بدينهم ،وعلاقات فيما بينهم وفق رؤية الدين،إذ منه ينبعث كل تغيير مباح .
من خلال خبرتي الضحلة في الدعوة وفنونها ومجالاتها وبعدما متأملي في حيثياتها ، رأيت أن ما يلقن للناس على المنابر وفي حلقات الوعظ ،وفي مختلف وسائل الدعوة في غالبه يأتي بنتائج عكسية ،بل قد تكون منفرة إلى حد ما لمن يريد أن يعيش الدين على بساطته . تلك النظرة المتشائمة والتركيز على الفارغ من الكأس ،والخطاب بضمير الجماعة ،واتخاذ النموذج القديم والذي يشوب بعضه شيئ من المبالغة أو الوضع بالجملة ،كلها رسائل تجعل الإنسان المسلم البسيط يرى من نفسه حجما لا يتفق وما يأمل لمعاده ،بل لربما يعيش تناقضا في فهم دينه بين ما يدركه هو من آيات ونصوص، وما تخرج إليه تلك النصوص من دلالات على لسان الخطباء والوعاظ والدعاة.
لا ننكر ما للأولين من فضل بعد الله في وصول هذا الدين القيم إلينا ،ولكن بعض الصور التي يتناقلها الدعاة ويرددونها في كل مناسبة لها صلة بالمقام أو لا صلة لها به،يحتاج إلى إعمال العقل في حقيقتها وفي نتائجها .فالله سبحانه وتعالى وهبنا عقولا لنتدبر ونفكر،ونصل إلى الحق من خلالها ،لا أن نعطلها ونأخذ بكل ما وصل إلينا حتى وإن كان على لسان عالم أو داع أو واعظ على أنه نص ثابت أصيل ،فكل يخطئ ويصيب ،ويؤخذ من كلامه ويرد ،إلا ما قال الله وثبت صحيحا عن رسوله .وأما عن الوضع والتدليس فهو ثابت في بطون الكتب، ومن كذب على الله ،لن يجد واعزا يمنعه من الكذب على رسوله ، وقد فعل ، والذي يكذب على الله ورسوله حري به أن يملاء تراثنا الإسلامي بالكذب والدس على أصحاب النبي والتابعين . فالأحاديث الموضوعة ،والأقوال المنقولة عن بعض الصحابة وقد اختلف في نسبتها وصحتها خير دليل على ذلك .
ومن ناحية أخرى فإن التراث الإسلامي مليء بالقصص التي وضعها بعض الوعاظ لزيادة التشويق وكسب الجمهور ،أو للمبالغة في التأثير ،أو ربما لتحصيل شهادات العامة بسعة العلم والاطلاع .وقد رد بعض العلماء كابن تيمية رحمه الله كثيرا من القصص وبين مواطن الخرافة فيها ،ولعلها تحدث من الإحباط في نفس المسلم البسيط ما يجعله ينكس على عقبيه ،لإدراكه أن ثمة بون شاسع بين إيمانه والتزامه وبين مثالية الإيمان كما ترسمه هذه الصور التي هي موضوعة في الأصل .
إن من يتأمل في هذا ثم يلتفت إلى حقيقة الدعوة التي كان يتقنها النبي صلى الله عليه وسلم ،يخلص إلى هذه النتيجة ولا بد ،فلقد ثبت أن النبي عليه السلام يدخل عليه الإعرابي ويجلس إليه ساعة يسأله عن الإسلام ،ثم يخرج من بين يديه مسلما يعرف إسلامه جيدا ،ثم يصبح داعية إلى الله يهتدي على يديه الناس حيثما حل وارتحل .
لقد ضيقنا الدين على الناس بكثرة شروحاتنا له ،وكثرة حواشينا عليه ،وتشتت بالناس الفكر بين عاجز ومتهاون ،وفي حقيقة الأمر يقينا ديننا بسيط وسهل للغاية ومعظمه سلوكات نعيشها بالفطرة التي فطرنا الله عليها ،ولمن قال غير ذلك أسوق له هذا الحديث الصحيح : قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى(ج1ص16):(حدثنا أسماعيل حدثنا مالك بن أنس عن عمه أبي سهيل بن مالك عن أبيه أنه سمع طلحه بن عبيد الله يقول: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد ثائر الرأس يسمع دوي صوته ولا يفقه ما يقول حتى دنى فإذا هو يسأل عن الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس صلوات في اليوم والليلة فقال هل عليّ غيرها ؟ قال لا إلا أن تطوع ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وصيام رمضان ،قال هل عليّ غيره ؟ قال لا إلا أن تطوع قال وذكر له رسول الله صلى اله عليه وعلى أله وسلم الزكاة ، قال هل عليّ غيرها قال لا إلا أن تطوع قال فأدبر الرجل وهو يقول والله لا أزيد على هذا ولا أنقص قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(أفلح أن صدق.
إن قوله صلى الله عليه وسلم "أفلح إن صدق " فيه دلالة على دخوله في عصبة المفلحين إن فعل والتزم بما أقسم عليه ، وفي القرآن الكريم فيض وصف للمفلحين وحصر لصفاتهم ،فلا أظن تعارضا بين ما قاله النبي وبين ما ورد في القرآن ، إذ إن المقصود تلك الخطوط العريضة التي أقسم على فعلها السائل ،فلا أرى داعيا لتشتيت القول على مسامع الناس وإخراج المراد عن مدلوله ،فالنص صحيح وصريح ،لكن تطويلات القول في شروحات الدعاة والوعاظ والخطباء على ما نسمع جعلت للمفلحين مثلا يصعب إيجاده ،وحصرته في نخبة من الصحابة لا يستطيع أحد الإتيان بشبهه أو بجزء منه ؛ليجد المسلم اليوم نفسه على مسافة غير يسيرة من الوصول إلى مستواهم أو مجاراتهم ،فبات يتردد بين فعل اليسير وهو المطلوب أصلا على ظن منه أنه لا يسمن ولا يغني من جوع فيما تأصل في فكره جراء التوسع والتشدق والتنطع .
فالكلام في هذا وما يندرج تحته وما يتفرع عنه طويل ، لكني اختصارا أعود فأقول : إن أولى أولويات التغيير، هو الأسلوب المتبع في تعريف الناس بدينهم ،وتوضيحه على بساطته؛ليعرف المسلم أن الحد الفاصل بينه وبين الكفر شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، والاتفاق مع السائل فيما أقسم عليه ، ويبقى ما سوى ذلك تنافس وترق في درجات الرضوان بين يدي الله جل وعلا ،ففي ذلك فليتنافس المتنافسون . والله أعلم .