لا أدري بعد مرور خمسين أو مائة سنة أو أكثر أو أقل ،وقدر الله لكتّاب التاريخ أن يذكروا أو يعرِّجوا على معان وأحداثها ،ما الذي سيكتبونه ؟ وبأي وصف سيصفونها ؟ وتحت أي راية سينضوون بتحليلاتهم ؟
انطلاقا من كوني أحد أبناء المحافظة وتربطني بأهل معان المدينة أواصر القرابة والنسب والصداقة والعمل ،ولأنها محطة لأغلب نشاطاتي الثقافية والشخصية ،أحببت في هذا المقال أن أذكر وجهة نظري تحديدا عما تمر به معان وما يحدث لها ،ولا أدعي كمال المعرفة والتحليل،وأنما أعزو إن أصبت من الحقيقة شيئا إلى توفيق الله بمنِّه وكرمه ، وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان ،سائلا الله جلَّ وعلا المغفرة ،وملتمسا من القرّاء الكرام اللامؤاخذة ،فهذا ما رأيت لا قلَّ ولا كثُر !!!
إن من ينظر إلى معان تاريخها وثقافتها وتكوينها،يجد أنها مدينة عريقة قديمة سابقة لكثير من الكيانات العربية الحديثة،وقد ذٌكِرت في بعض كتب التاريخ القديمة غير مرة،وتكلم المؤرخون عن طبيعتها وطبيعة ساكنيها ،فهي محل حلول وترحال القوافل التجارية من اليمن والجزيرة العربية إلى بلاد الشام ومصر وبالعكس،وكذلك محل نزول وعبور الراحلين من الجنوب إلى بلاد الشام ومصر،أو القادمين من بلاد الشام ومصر إلى الجزيرة العربية واليمن . وأكثر أوقات ازدهار الحركة فيها قبيل وبعيد موسم الحج،حيث يلتقي فيها الناس من كل حدب وصوب ذاهبين وجائين من وإلى بلاد الحرمين الشرفين والجزيرة العربية أو اليمن الخصيب .
ولقد ثبت بأن الحرفة والمكون الرئيس للمعيشة في معان قديما وحديثا هي التجارة ،فأصبحت أشكال التجارة وفنونها جزءا من الثقافة الموروثة في كيان وتكوين المجتمع المعاني،واعتمد عليها المواطنون بشكل رئيس،ولم تكن حرفة أخرى تنافسها على مدى سنين طويلة حتى العهد الحديث ،حيث تغيرت الخريطة المعيشية في كثير من مدن وتجمعات المنطقة .
وكنتيجة للتنظيمات السياسية والتكوينات الدولية،ونتيجة للقوانين والأنظمة التجارية والمالية،وُضعت القيود الضاغطة على حرية التجارة وانطلى أثرها على واقع الحياة في هذه المدينة ،فباتت التجارة الرابحة لا يقدر عليها إلا من يقدر عليها،أما صغار التجار فقد غدت إمكانياتهم محدودة وخسائرهم متكررة،وبقوا في صراع مع الفقر والحاجة في ظل تسارع وتقدم أشكال الحياة في البلاد عامة،فتحوَّل بعض الناس عن التجارة إلى حرف أخرى لا تسعفهم خبرتهم فيها إلى الركون إليها،فمنهم من لم يوفق،ومنهم من وجد ملجأً يعتاض به عما كان ورثه من أساليب معيشية فيما سبق؛فأفرز هذا الواقع شريحة من أهل المدينة أنهكها الفقر والعوز،ولم يكن أمامها متسع من الوقت في ظل الثورة العالمية المتسارعة في شتى نواحي ومتطلبات الحياة الحديثة أن تعيد هيكلة نفسها،وتبحث عن فرص مناسبة للعيش والحياة،فلربما لجأ بعضهم إلى التهريب،أوالمتاجرة فيما تحرمه الدولة،أوفيما هو محرم شرعا،فأخذت الدولة بنصيبها منهم مطاردات وغرامات جمركية وسجن وتنكيل،حتى بات هذا الواقع تحديا أمامهم في أن يصنع الواحد منهم لنفسه وسيلة للعيش كيفما كانت ومهما كلفه الثمن؛ لأن النهاية وفق منظورهم بائسة على أية حال .
وتفاقم سوء الحال والأوضاع في ظل غياب الوعي والانتباه والحصافة الحكومية،وانتشار تيارات فكرية متنوعة لها انتماؤها وولاؤها،حتى تكون في الثقافة الشعبية هناك كره وعداء للأمن والعاملين فيه،قاد إلى صدامات توالت ، ثم تطورت إلى قتل ونزالات متكررة،وهذا مشهود منذ أكثر من ثلاثين سنة .
وتوسع مفهوم العنف لدى الثقافة الشعبية كنتيجة لهذا واتكاءً عليه،وطالت المواطنين داخل معان وخارجها ،وظهرت صور من الاعتداء على الأموال العامة والخاصة ،وبما قدَّمت يد الحكومات المتعاقبة وهذه الآن ،بات الأمن هزيلا في في هذه المدينة لولا ما ضبطته ويضبطه أخلاقُ الناس ودينهم .
وآخر ما حدث وما نحن بصدده أزمة الحكومة اليوم مع معان المدينة والشعب ومعان التاريخ ،ولربما يبدو للمراقب من بعض الزوايا اختزال مصلحة الوطن أحيانا أو شعب بأكمله في شخصية مسؤول لإشباع نَهَمٍ في قلبه،أو شبقٍ في هواه ،ولْيذهب من لم يشأ إلى التهلكة !!!
إن ما أردت أن أوصله في هذا المقال هو أن التعامل مع أزمة معان "مش هيك " يا معالي المجالي!!!
ليست القضية أن تتحدى المواطنين بقوة وسلاح أبنائهم الذين هم من أصلابهم ،وسلاحهم ومعاشاتهم من جيوبهم ؟
وبحجة فرض هيبة الدولة بعد أن كان عدد المطلوبين تسعة عشر،أصبحوا عشرات !! فلقد عولجت المشكلة بأبشع منها ،وتولدت أزمات لا تحل بمحاولات غير مسؤولة ،يشتم منها هاجس الاستعراض ،وإثبات الذات بالمناورة لاجتثاث قضية لا يمكن حلها خاج إطار:"إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما"!!!
مشكلة معان هي جهل المسؤول بتاريخها واقتصادها وثقافتها ،فمعان تاريخها عريق وينبغي على الحكومات فهمه قبل التورط في أي تصرف أرعن،واقتصاد معان تجاريٌّ بحت، ولا يمكن تقزيمه ،ومهما ابتكرت الحكومة من طرق للتَّضييق على الناس في وسيلة معاشهم هذه ،سيلجأون إلى وسائل أخرى وثغرات شتى لاختراقها وتأمين حياتهم .
وثقافة أهل معان والقرى المجاورة مختلفة ولها محاذير لا يمكن تجاهلها أو العبث بها ،وهي ثابتة في عقولهم ثبات الأرض التي يمشون عليها ،وإن ما حدث من تغيير أغرى بعض المخططين له في المدينة ،ما هو إلا شكلي لا يلبث أن تنخلع قشوره، ويعود اللب بنكهته ومكنونه .
ولعل ما أُنفِقَ من أموال لإصلاح ما تم تخريبه في المدينة منذ اندلاع المواجهات بين الشعب والحكومة على مدى سنين خلت كافٍ لبناء مرافق تستوعب جميع العاطلين عن العمل في المدينة وما حولها، لو كانت لدينا سياسة حكيمة..!!! لكنه التخبطُ والمحسوبية التي عبثت بكل خلية يُبْنى أو يتنفس منها الوطن،واختزالُ مصالح الوطن والمواطنين وتقرير أمنه بيد أو فكر شخوص ليس لهم من الإدارة أوالسياسة والفطنة والحكمة إلا ما سمعوا عنها......!!!!
إن الحل الوحيد فيما أرى لما يحدث لمعان وأهلها،هو تحويل المدينة إلى منطقة تجارية حرة،وتفعيل المؤسسات الدينية والتعليمية المتوافقة والمنظور الثقافي والقيمي لأهل المدينة،لا أن يوْكلوا للجامعة التي أصبحت عبئا على الثقافة والقيم العلمية والشعبية في المدينة وخارجها ،وكذلك تخفيف وطأة القيود التجارية على تجارها وأهلها ليتسنى لهم العيش ضمن موروثهم التاريخي، ويتحول جهدهم إلى هِبْة يستفيد منها الوطن والمواطنون بأية صورة .