التصريحات الحكومية عن عدم وجود أي بند مرصود لمشروع اللامركزية في الموازنة العامة يلمح إلى أنها لن تكون على أجندة هذا العام، ويغمز بطريقة ما من قناة الحكومة السابقة التي تبنت مشروع اللامركزية، لكنها لم ترصد لها فلسا واحدا في الموازنة التي أقرتها.
فعلاً الموازنة ناقصة، والحكومة الحالية استدركت الأمر وامتلكت الإرادة لإصدار ملحق بثلاثمائة وأربعة ملايين دينار لتغطية التزامات ونفقات متنوعة، فلو تذكرت وأضافت مخصصات من أجل اللامركزية، وفي ظنّي انها للعام الحالي يمكن ان تقتصر على موازنة للانتخابات لن تكلف الملايين الأربعة فوق الثلاثمائة مليون.
وعلى كل حال، أستطيع أن أضمن للحكومة أنها ستجد تمويلا دولياً متحمسا لها خصوصا من الأوروبيين، وحتى الأميركيين، الذين سيكون عندنا الآن وفد منهم لمتابعة قضايا الاصلاح الديمقراطي، ويمكن تقديم مشروع اللامركزية كخطوة كبرى تستحق الدعم الضروري بدلاً من أن نظهر خالي الوفاض إلا من انتخابات نيايبة قادمة في نهاية العام وهي استحقاق طبيعي وحتّى من دون تصور عن الإصلاح في القانون الانتخابي الموعود!
ثمّة وجهات نظر قابلة للنقاش حول من يكون قبلا الانتخابات النيابية أم انتخابات اللامركزية، هناك الاعتبارات البيروقراطية التي تتحدث عن عبء أكبر مما يجب بإجراء جولتين انتخابيتين محلية وعامّة في غضون اشهر، لكن كنت استمع الى نقاشات مسؤولين حاليين وسابقين تناقش فكرة إجراء جملة انتخابات نيابية وللمحافظات والبلديات في نفس الوقت، من دون أن تتوقف أمام قضية العبء، وهذا التزامن يحدث بالمناسبة في كثير من الدول، وهناك الحسابات المحلية للمرشحين للنيابة حيث أن كثيرا منهم يستذكرون الحرج الشديد مع مرشحي انتخابات البلديات، التي سبقت الانتخابات النيابية الماضية، إذ كان عليهم أن ينحازوا إلى هذا أو ذاك من مرشحي البلديات، والبعض كان يأخذ الحياد خصوصا بين مرشحين من أفخاذ عشيرة واحدة، والنتيجة أن نالوا غضب الطرفين، لكن ليس لمشروع وطني كهذا أن يتوقف أمام هذه الاعتبارات خصوصا إذا كنّا سنطور الآليات الانتخابية.
هناك اعتبارات أكبر وأهم تستدعي إجراء الانتخابات المحلية قبل النيابية، كما نرى، لكن ثمة تكهنات تذهب بعيدا في تفسير التحول المفاجئ تجاه موضوع اللامركزية، وثمة تلميحات إلى أن القانون نفسه، وليس الانتخابات فقط، برسم التأجيل ويربط ذلك بحسابات اقليمية (هل نقول كالعادة!) ويتحول الأمر الى لغز غير مفهوم إذ لا يبدو أن ثمّة رابطا منطقيا بين عملية تنموية على مستوى المحافظات والشأن الإقليمي.
وكان مشروع الأقاليم الثلاثة للامركزية قد أثار بالفعل لغطا، لكن منذ تنزيله الى مستوى المحافظات لم يعد هناك اي تحفظات، فما هي الاعتبارات الإقليمية، وما شأن اي تطورات محتملة على صعيد القضية الفلسطينية بتطويرات تنموية محلية ضرورية في كل الأحوال والظروف؟!
بقي الاحتمال الأخير وهو تراجع القناعة بجدوى اللامركزية وجاهزية المجتمعات المحلية لها! بهذا نعود إلى نقطة الصفر، التي تمحي كل المقدمات والتنظيرات التي أفضت الى إقرار هذا التوجه، فأي دهشة تنتاب المراقب لهذا الهدر الرهيب للطاقات والأفكار والجهود، وهذا الاستنزاف الفظيع للمصداقية العامّة؟!