في نقاشية هي الأروع لرواية "حديث الجنود" للدكتور المبدع (الأوسكاري) أيمن العتوم، هبطت علينا الأخت الدكتورة ديمة طهبوب هبوطا ملائكيا، لتُخيّم على المكان بظلالها، وتستدعي الزمان، وتلقي على الوجوه قميص الخشوع، فتسري القشعريرة في القلوب، وتنساح منها في الأبدان جلالا ووقار، ثم تُعسكِر المشهد من جديد بتحية عسكرية، تليق بروح الرواية: كاتبها، وجهاد أبطالها!
وعلى يمينها يقوم الدكتور علي محافظة ليفتح صندوق الأسرار، ويُمط اللثام عن مواجع القرار، والسياسات التعليمية، ومعضلات في الإدارة، نادرا ما يبوح بها الكبار، ممّن فُتحت لهم يوما سراديب العجائب!!
وبينهما شاب وأيّ شاب؟! الدكتور خليل الزيود.. فطنة لا تقطف إلا وردا، ولا تمجّ إلا عسلا، وكلمة بشعبتين.. وما أروع الكلمة حين تجمع النقيضين: فتضم وتأسر وتوشوش، وهي في نفس الوقت تدفع وتُقصي وتَفضح.. فـ " بضدها تتميز الأشياء"!!
أيمن العتوم الأسد في عرينه، والفِهر(الحجر) الذي كسر مرآة الكذب.. نبش التاريخ، ولملم أورارق القضية، واستنطق الأرواح وأنصف الضحايا، بعد 28 عاما من الجريمة، فقدّم الرواية بلسان أصحابها، لم يبتدع شيئا، وما كان من المتكلِّفين!!
في هذا الجو اختلطت أوراقي، وأخذني الذهول، ودخلت في سكرة الذكرى.. كيف لا؟!
والرواية تحكيني، وتروي عني فيمن حكت، وتجذبني جذبا لأدخل غُرفَها، وأصافح أبطالها الذين كتبوا سِفرها، أذكرهم بنفسي، وما كنت فيهم إلا مبتدئا "غشيما" جاء من ضيق قريته، ليدخل الحياة في رحابة الفكرة، وجلال المبادئ، وبدأ ترجمة ما يؤمن به إلى واقع وحركة، كبرهان على صدق إيمانه، فكان قطرة في مجرى النهر، رفدته، وإن لم تكن في العمق منه، لكنها على ضفافه تُحامي، فاعْتُقِلتْ قبل يومين مِن فصلِ النهاية، وما نالها إلا بضع لطمات، وجاد بنفسه ودمه أخلص أجنادها!!!
صدمني نبأ: أن الرواية اليوم وراء القضبان، وأنها موضوعة في قفص الاتهام، لأنها رَوتْ ما لا يصح روايته، وأظهرت الحقيقة، وغاصت بوحل المرحلة تبحث عن المفقود، وتمسح الطين عن أفواه الضحيا ليُدلوا بشهادتهم، التي لم يسمعها أحد حينها، أمام جيل جديد سيكون هو الحكم العدل على ملحمة عدل وحرية طلابة، لم تشهد المنطقة لها مثيلا إلى اليوم، إلا في جامعة الأزهر في الزمن العربي السيسي!!
غيَّرتُ مجرى حديثي وتحدثت بما ينبغي، لأنني أعرف الرواية، والراوي وأهله وبيته الكريم.
أعرفه طفلا في السادس الابتدائي، ينظم الشعر ويدوّن الخاطرة.. أعرفه طفلا في الثالث الإعدادي يحمل في الرأس فكرة، وفي القلب إيمانا وعقيدة، وفي العقل وعيا وبصرا، وفي العزم ثورة .. أعرفه يحمل في يد حجرا وفي الأخرى بصله؛ ليذود عن الضحيا حول أسوار الجامعه في يوم المعمعة.. أعرفه طالبا شاعرا مهندسا يُفْصَل عاما، ويسجن آخر، فأي شرف نالته أقبية المخابرات وسجن الجويدة وسويقة، أن حلّ فيها فارس بحجم أيمن العتوم!
لا عجب أن تُطارد الرواية وصاحبها.. فتُمنع من النشر، ويُضيّق عليها كي لا ترى النور، وتغلق في وجهها كل المنتديات الرسمية، ولو كان في الدنيا بعض إنصاف، وبعض حياء.. لتبنّاها الرسميون، واحتفلوا بصاحبها وكرموه، بل ولأطلقوا اسمه على قاعات وكليات وشوراع... لكن لا عجب ولا غرابة، فنحن في زمن التردي، وما زال ينشب أظافره في ظهر الفضيلة!!
أقول كان حدث اليرموك عابرا، أو صفحة وطُوت، أو كابوسا مزعجا تم مسحه من الذاكرة!!! هكذا أرادوه، فجاء الفارس من خلف القَتَر(الغبار) لينفخ فيه، فينتفض فِينيقُه من جديد، ليقلب المعادلة، وينصب الشواهد، ويستلّ ريشته الملهمة، ويرسم بها صورة الغراب الذي يحطُّ على الشجرة اليابسة، وتحتها قبرٌ كُسرت نصيبته!!!
نطقت بالحق يا أيمن فما زلنا نحن أبناء الحراثين نلبس الصندل البنّي، وقد ازدادت بناطيلنا ميلانا، ونصفنا ما زال عاريا.. نملك الذكريات، وفي صدورنا الآهة المرعوبة، وندحرج كرة الثلج، وما زلنا قادرين أيضا على تصويب الأخطاء النحوية!!
إنهم يخنقون الكلمة لتموت، والكلمة الطيبة التي أنشأت الحياة لا يمكن أن تموت أو تُغلب!!
إنهم يحاكمون الحقيقة، والحقيقة لا تُحاكم، وحين تُحاكم الحقيقة يرتجُّ الكون كله، ليحامي ويدفع، لأنه إن لم يفعل يكون لُفافة من الزيف تحترق في غُليونٍ، وتطير دخانا يتبدد من الوجود!!
ما زالت اليرموك بلا أبطال يا أيمن، فجاءت الرواية لتوقظ البطل في طلابها... إنها تُسرج لهم الخيول.. وها هم يتأهبون للركوب!!