رساله إلى الذي بعدي ...
الجزء الأول
قال لي صديقي أمس , وهو صحفي :- (بمناسبة تراكم الخبرات لديك في قضايا المطبوعات والتوقيف والسجن بماذا تنصحني ...إذا سجنت .)
قلت له :- حين يصدر قرار الإيقاف ياصديق , سيأتي شرطي لأخذك , وسيقومون بوضع (القيود ) في يديك , إياك أن تبدي أية علامة غضب أو إستكانه بل قل للشرطي :- (بتسمحلي سيدي بس أدخن سيجاره) , هو تعود أن يقول لمرؤسيه (سيدي) وحين يسمع منك الكلمة سيشعر بالقوة ,لأن أحدا لا يقول له ذلك سوى المساجين وسيشعر بالحنان أكثر وفي لحظة سيصبح صديقك وسيسمح لك بالسيجارة ...
سيضعونك في غرفة حقيرة قذرة من دون حمام , أنت ومجموعة من اللصوص واصحاب الأسبقيات , إبتسم في وجههم ,أخبرهم أن قضيتك نصب وإحتيال وارفع المبلغ قل لهم :- شيكات بقيمة (270) ألف دينار ..ستحظى بإحترامهم صدقني وسيعطيك أحدهم سيجارة خلسة , وستتغير النظرات إليك ...هؤلاء لايعرفون معنى مطبوعات أو صحافة وبعضهم لم يقرأ جريدة في حياته .
بعد ساعتين سيقومون بتوزيعك , وسيخبرك السجان بأنك حظيت بمعاملة خاصة ولن تذهب إلى مخفر الحسين وتوزع من هناك, بل ستذهب في زنزانة متحركة إلى سجن ماركا ...حين تخرج سيضعون القيود في يديك , تذكر إذا وضعت القيد..خلف ظهرك ستتعب وستصاب بتشنجات عنيفه في الكتف , قل للسجان برفق :- (سيدي أرجوك أنا أعاني من الدسك , هل تتلطف وتضع القيد واليدين أمامي) ...وسيقبل , هو يعرف أنك تكذب ولكنه يريد توسلك , ثم ستصعد للزنزانة ..وهي من حديد وحين تمر من مطب في الشارع سيضرب ظهرك عبر ارتطام سريع في المقعد وستتألم , ثم ترفع رأسك لفوق وتتذكر الأولاد وفراشك الدافيء وتتذكر كيف كنت تحضنهم قبل النوم وتحمد ربك ألف مرة أنهم لم يروك في هذا الموقف .
حين تصل السجن يا صديق , كن مبتسما , جميع الضباط هناك فخورون بالأمر جميعهم يتسابقون ...لإيداعك بالمهجع , وثمة ضابط يخفي خلف الوجه ألف ابتسامة تشف سيقول لك :- (إرحموا عزيز قوم ذل) , لحظتها إمتلك كل قوتك وصبرك وشجاعتك وقل له بكل ما في الموقف من رجولة :- (ما اتخسى إنذل أحنا ما بنذل) ...سيخجل من جملته وسيقول لك :- فهمتني غلط أستاذ , لا تنتبه وامضي .
ستلبس بدلة زرقاء قذرة , وقليل من القمل إذا غزا الرأس لن يضر ...وسيأخذون منك كل شيء ويجعلونك تبصم على كل شيء , وستمضي للمهجع ..وستكتشف أن الشباب من جميع المرتبات قد أتوا ..إياك أن تكسر نظرتك وارفع رأسك وامش مثل طاووس وتذكر أن القلم ليس جريمة والحرف كذلك ...
حين تدخل المهجع ستجد أنه يحتوي على (18) موقوف , من ضمنهم واحد من جنسية اسيوية , سلم عليهم جميعا باليد وقبلهم ,بالطبع هم سيختارون لك السرير الذي بجانب الحمام كي تنام على رائحة قذرة , أرفض مباشرة ..وإذهب لشاويش المهجع وقل له :- أن يغير السرير ...
إياك أن تنعزل أو تنام مباشرة , حاورهم وابدأ بالتعرف عليهم , وبعد معرفة الإسم إسأل عن القضية ...وإضحك وارفع حاجبيك قليلا , واجعل الموقوف يحس أنك تريد معرفة التفاصيل الدقيقة ..ومن ثم حاول أن تشعره , بأنه مظلوم وأن الوطن ظلمه والأيام ..
ستحتاج لدقائق معدودة حتى تعرفهم كلهم , بعدها إذهب إلى الحمام ..أنت تعرف أنه قذر , وتعرف أن الباب لا يغلق , وبجانبه حبل ينشر عليه المساجين ملابسهم ..
في تلك اللحظة إذا جفلت , أو تلوت معدتك أو أصبت بالغثيان فاعرف أنك ستنهار لهذا أدخل مباشرة , وتخيل أنك في منزلك ..فقط أغمض عينيك وتخيل صوت الأولاد ورائحة المعطر , والشمع المشتعل الذي يصدرأريج الياسمين إذا فعلت هذا وكان الأمر عاديا فستعبر , أما إذا لم تفعل فستعاني الأمرين ...بعد أن تنهي , وبوقاحة صارمة , إطلب من النزلاء قليلا من الصابون لأخذ (شاور) , سيعطونك سيرف الجبار إقبل ..وأثناء أخذ الشاور حاول أن تغني فحين يسمعون دندناتك , سيعرفون أنك معتاد ...
بعد ذلك إجلس معهم وإستمع , هناك شخص إسمه (ب) منعزل وجالس وحده , جره إلى الحديث , وستكتشف أن لديه (68) قيدا واخر واحد كان إطلاق النار ..وإصابة مواطن في بطنه ..حاول أن تشعره بأنه بطل وليس مجرم فالبطولة أحيانا تكون جريمة والجريمة في لحظة قد تصبح بطولة وصدقني أن جميع المساجين أبطال ..حتى المجرمين منهم .
بعد الحديث إستلقي ...وراقب شباك باب المهجع ,كل مرتبات السجن ينظرون لك كلهم يراقبونك وينتظرون إنهيارك , ولكن ابو ذر الغفاري معك , والصبر كله معك ..والرضى والكرك حضرت ومسحت بيدها على جبينك فلا تخذلها يابن صحرائها وجوعها وزمنها المضيء ....
إياك إياك يا بن الكرك أن تذرف دمعة حرى في غفلة من النزلاء أو تشهق أو تتذكر الأولاد ...إلى هنا وانتهى الأمر لأنهم حين يمرون ببالك , تمر سكين تجرح القلب ..إنساهم مؤقتا وفكر ...فيما قرأت :- فكر بحسين الأهوازي , فكر بما قرأت من كتاب محمد عابد الجابري , فكر بأن الدنيا غرام ...وفي لجة التفكير سيأتيك وطنك الوطن يسامحك , والوطن حنون لا يعاقب ..سيقول لك :- أنت وحدك من يعرف ترجمة نبضي , أنت وحدك من ينطق بصبري ...سيظمك صدقني أن الوطن لحظتها سيظمك ويجنوا عليك ..وستنام في الليلة الأولى نوما عميقا ...
ستنام على صدره , ولكنك ستفيق على صوت العسكر في الرابعة فجرا , وستصحوا مصدوما , فالأولاد ليسوا في حضنك وستكتشف أنك رجل فاقد الإرادة والحرية , مباشرة إنسى الأمر وقف مثل شيحان بل أقسى , وتذكر أن الجندي سيحاول إستفزازك كي تخرج من أجل شيء يسمى العد ..أي :- إحصاء السجناء ..سيحاول أن يستفزك الجندي بالصراخ والإستعجال, فأنت سجين جديد لا تنظر له ولا تضع عينك بعينه بل أشعره أنك لا تراه ..وأمض مع النزلاء ...وما هي إلا لحظات وستكتشف أنك حافي القدمين , لأن جميع السجناء إشتروا من البقالة حذاءا بلاستيكيا ويملكونها منذ زمن , وأنت جئت بعد العصر والبقالة مغلقة ...فلا عليك أن تقف حافي القدمين ...لأنك في عريك ستر للكلمات وستر للإبداع والصبر ....لأنك في عري اقدامك نبض الأرض ونبض التراب . لأنك في عريك ستر للصفحات والحروف ..
سينتهي العد , وحين تعود لن تعرف أن تنام ..قلت لك إن تذكرت الأولاد ..سيذبحك القلب , حاول أن تجر السجناء للحديث وابدأ أنت ...أنت ساحر في الكلام , لديك اسلوبك ستشدهم . سيجلسون حولك وسيتسمرون ...إبدأ لهم بالحديث عن الصبر..وعن أجر المسجون , وألف لهم قصصا عن مساجين خرجوا أبطالا ..أخبرهم أن (لينين) كان أميا ...هم لايعرفون لينين , وقل لهم أن (ستالين) أمضى (34) عاما من حياته في السجن , وإن سألوك عن (ستالين) قل لهم أنه قائد تركي عظيم ...ستسحرهم ..وبعضهم سيحاول أن يلتقط الكلام كي ينقل غدا تقريره ستعرفه من تركيزه الشديد وكثرة الاسئلة ....
عبدالهادي راجي ....
- نهاية الجزء الأول -
نقلاً عن صفحة الزميل عبدالهادي على الفيس بوك