لو تجاوزنا قدسية الإسم ، وهي العابدة الزاهدة التقية العاشقة للذات الإلهية ، رابعة العدوية ، وقدسية المكان ، وهو المسجد المسمى باسمها وأكنافه والساحات والشوارع والأزقة المحيطة به ، وقدسية الزمان ، شهر رمضان المبارك وما قبله وما بعده ، وقدسية الحضور ، الصائمين القائمين الذاكرين وهم عشرات الآلاف وأحيانا مئات الآلاف وربما أكثر ، وبشاعة النتيجة وفظاعتها قتلى ومصابين ومفقودين ومعتقلين .
لا أدري كم سيمر من الوقت حتى ينسى الناس هذه الفاجعة وآثارها ، فقد أصبحت في عهدة التاريخ تقرأه الأجيال ، ويتناوله الباحثون بالتحليل والأستنتاج والدراسة ، وأهم من ذلك قد أصبحت أحداثها بين يدي حكم عدل ، لا يضيع عنده حق ، ولا يغيب عنه شيء .
ولا أدري أيضاً ، هل حان الوقت لمناقشة هادئة عقلانية للحدث نفسه ، بعيداً عن أي تأثيرات ، وما زالت آثاره ماثلة وجرحه لم يلتئم بعد وشهوده أحياء . على أيه حال سأُحاول ، سيما وقد كنت أكتب بعض التعليقات أثناء الحدث ، أُبدي فيه رأيا ، ربما لم يكن يُعجب الكثيرين ، ومع ذلك ، يبقى رأياً قابلٌ للخطأ والصواب والنقاش .
والإعتصام هو وسيلة سلميّة لتحقيق مطالب معينة ، عن طريق تجميع عدد من الناس في مكان محدد حتى تتحقق مطالبهم . وللأمانة فقد أثبت الداعون للإعتصام مقدرة كبيرة على الحشد وإدامته لفترة طويلة وما يرافق هذا من توفير الخدمات الأساسية والضرورية لمختلف الأعمار .
لقد كان القرار بالإعتصام من أسوأ القرارات التي اتخذها منظموا الإعتصام ، وهم هنا الأخوان المسلمون ، يُضاف إلى سلسلة القرارات الخاطئة التي تتخذها الجماعة هناك منذ ثورة 25 يناير . فقد كان واضحا غياب الرؤية التفصيلية الواضحة عند المنظمين والحاضرين .
فتجميع الناس وحده لا يكفي لتحقيق أي هدف ، إن لم تتبعه وسائل وفعاليات أٌخرى . فلم تُستغل طاقات الحشود الغفيرة لتحقيق هدف معين حتى لو كان صغيراً ، وبدلاً من ذلك اعتبروه موسما للعبادة وتزكية النفس من صيام وقيام وتلاوة القرآن الكريم وحلقات الذكر والتعليم ، على أهميتها ، إلا أنها ليست الهدف للإعتصام ، بل كانت وسيلة لإلهاء وتشغيل الحضور وامتصاص طاقاتهم ، فغاب الهدف الأصلي للإعتصام ليصبح وكأنه دورة تدريبية تربوية ، دون مراعاة الفروق الهائلة بين الحضور من مختلف الأعمار والمستويات الفكرية والثقافية ومدى الإلتزام .
وبسبب غياب الرؤية الواضحة للمنظمين لمطالبهم وما يريدونه ، تباينت كلمات المتحدثين الرئيسيين على المنصّة تباينا كبيراً ، ورفع بعضهم سقف التوقعات بشكل كبير وأسرف في الوعود ، وكأن الأوضاع على وشك العودة إلى طبيعتها وأن إعادة الرئيس المنتخب كان وشيكاً .
وكان واضحا سيطرة تيار متشدد على المنصة وفعالياتها ، حتى أنهم منعوا إذاعة الأغاني والأناشيد الوطنية التي كانت تُذاع أثناء ثورة 25 يناير بحجة الموسيقى وحرمتها عندهم . ومن ذلك أيضا طبيعة الهتافات التي كان يرددها مَن على المنصة ، وكأن القضية أصبحت ثورة إسلامية و لتحكيم شرع الله.
علما أن هذا الهدف لم يكن مجمعا عليه لا من الحضور في رابعة ولا حتى أثناء ثورة 25 يناير لإختلاف مشارب الحضور وإنتماءآتهم الفكرية ، فليس كل الحضور كانوا إسلاميي الفكر والتّوجّه .
كما غاب أي نوع وبأي درجة من التواصل أو التفاوض أو حتى جس النبض بين قيادة الإعتصام وبين السلطة الجديدة ، إلا في حالات محدودة جدا قام به البعض وسرعان ما تم نفيه والتعريض به بل إدانته من قبل المتحدثين على المنصة وكأنه رجس من عمل الشيطان .
ويبدو أن المنظمين لم يكن لديهم بدائل أوأي نية للتغيير في الأسلوب والتكتيك ، فكانت الفعاليات نمطية تربوية متكررة كل يوم وبنفس البرنامج تقريبا . إضافة لذلك لم يكن لديهم توقّع لما يمكن أن يُقدم عليه الطرف الآخر ، وكأن الحشود الكبيرة عاصمة من قيام الطرف الآخر برد فعل قوي وعنيف ، ومتوقعين أن يُتركوا وشأنهم يُنفذون برنامجهم التربوي والذي بدأ يتطور ليأخذ شكل الإعتصام أمام أماكن حساسة .
طول فترة الإعتصام دليل على أنه استنفذ أدواته وأغراضه دون أن يتمكن من تحقيق أي من الأهداف المعلنة ، وتحول إلى مهرجان كرنفالي شعبي ترفيهي حتى لا يمل الحضور ويتعبوا .
لقد كانت تجربة مريرة عاشتها مصر ، وتابعها العالم بالصوت والصورة ساعة بساعة ، من البداية وحتى تم اقتحام مكان الإعتصام ونتائجه المروعة . وقد كان واضحاً أن النظام الجديد لم يأت كي يرحل ويُعيد الأوضاع إلى ما كانت عليه ، وأنه كان مصمما على تنفيذ المخطط الذي كانت بداياته قديمة وكانت مؤشراته تحدث أمام سمع وبصر الرئيس مرسي دون أن يحذر أو يُحذّر .
أما المستقبل فهو غيب لا يعلمه إلا الله سبحانه ، فما هو ظاهر أن الحكم الجديد تمكن من تثبيت أركانه مستندا لتأييد كل القوى الكارهة للتيار الأسلامي والأخوان المسلمين تحديداً ، ووسائل إعلام وإعلاميين يؤيدونه بقوة وكذا القضاء وكل مؤسسات الدولة وفي مقدمتها الجيش والداخلية .
وقد كشفت الأحداث أن تيار الأسلام السياسي كان مكشوف الظهر ولا يعتمد إلا على قواه الذاتية وعناصرة جيدة التنظيم والأنضباط ، كما كشفت أن جزءا هاما من الشعب لا يرغب بحكمٍ إسلامي ، وأنه يُفضّل أي حكم حتى لو كان عسكريا على حكمهم ، وأن العالم ليس متقبلاً بعد فكرة وصول تيار إسلامي للحكم ، والذين بدورهم لم يقصّروا بإعطاء هذا الأنطباع للآخرين ، بعد تحالفهم مع التيار السلفي المتشدد خاصة حزب النور الذي كان يجرهم نحو التشدد بالمزايدة عليهم ، وتبين أنه كان شريكا في الإطاحة بحكمهم لأسبابه . ويبقى أن نقول أهل مصر أدرى بشعابها .