منذ اندلاع ما يسميه بعضنا "الربيع العربي " ويسميه آخرون "الخريف العربي" وما سبقه وما تبعه من تداعيات ،يتخلّص للمراقب أن الرؤيا لما آلت إليه حال البلدان التي عصفت بها ريح الإصلاح ، تفصح عن مسلكين سلكهما المصلحون للوصول إلى مبتغاهما ، ولكل واحد من هذين المسلكين وسائله وأدواته ونتائجه .
وبعيدا عن التفصيل والتفريع آمل أن ألخّص ما رأيته في ذلك في هذا المقال سائلا الله السداد.
التيار الأول تيار الرفض والتشدد فيه ، إذ بدأ أصحابه برفض السياسات القائمة في بلادهم، والقدح فيها وبيان مثالبها وعيوب القائمين عليها وكشف ما يزعمون أنها حقائقهم ،وسلكت مع خصمها سبل التصعيد كلها ،من اعتصامات وإضرابات ومسيرات وتحشيدات ،وبدا أن الرياح جاءتهم بما لا تشتهي السفن ، فخرجت الأمور من بين أيدهم ، ووصلوا للصدام مع القوى الحاكمة أو المناكفة ، وتحوّل الصدام إلى قتال ، وفي ظل هاجس العناد والتحدي ، وغياب البصيرة والحكمة الشرعية ، استُخدم الدين وسيلة لحث الناس على الصمود والمؤازرة والدعم ، واستمرت المسيرة لا تلوي على شيء ، فتساقط الشباب قتلى هنا وهناك .
وهتكت الأعراض ، وقتل النساء والأطفال ، وشرد الناس وتاهوا في الأرض ، ودمرت المدن والقرى ، وعم في الأرض الفساد ،وتحول التناحر والخلاف من خلاف بين اتجاهين إلى فوضى عامة ،وتولدت أفكار وفرق وجماعات كل يريد النار لرغيفه ، وكل يدّعي وصلا بليلى ، وكانت النية كما يظهر بدءا الإصلاح والصلاح ، ولكن قلب كل لأخيه ظهر المجنّ ، فحدث فساد أكبر من الصلاح المنشود ، فساد تحتاج ذاكرة الأمة لعقود أو أكثر للخروج من مأساته . ولهذا التيار من الأدلة ما جرى في تونس وليبيا واليمن ومصر وسوريا الآن ، تفاوتت المدخلات والمخرجات وزمنها ، وتبقى جميعها صورة لعملة واحدة .
والملحظ على هذا التيار، أن ركب الموجة المزعومة- موجة الإصلاح - فيه كل من استطاع الركوب ، واصطفوا خلف تيار المنتسبين للدين ، ولما اقترب قطاف الثمار أو كاد تنازعوا أمرهم بينهم ، وبقي المصلحون المتدينون خلف المشهد كله ،وتحمّلوا الاتهام لكل ما جرى ويجري ، وليسوا بمنأى عن وزر ما حل بالبلاد والعباد ، إذ إن الضرر الذي تسببوا فيه وحدهم أو فتحوا البوابات له ، كان أكبر من أن تتحمله الشريعة وتقرّه على أية حال .
أما التيار الثاني ، فهو تيار البناء والعمل ، والمسايرة والحوار ، وتجنب أي نوع من أنواع الصدام أو تفاقم هوة الخلاف ،حتى تمكن المصلحون من تثبيت أقدامهم ، والتف حولهم الغالبية العظمى من التواقين للإصلاح من العامة والخاصة ، لما رأوا من صدق المقصد وبراءته ، وجدوى نتائجه ، فأصبحوا جيشه ورجاله ، فحالوا بين المصلحين وخصومهم حتى أمكن الله منهم ، هذا إذا ما علمنا أن أعداء الإصلاح لا يرقبون في مصلح إلا ولا ذمة أينما كان وكيفما حل ،وهم في الابتداء أكثر عدة ونفيرا ، ويمتلكون كل وسائل التعطيل والتحريف ، لكن المضي معهم بحكمة وتؤدة من قبل أصحاب هذا التيار، قاد احتيال المناهضين لأن سُقط في أيديهم ،فكانت عاقبة أمرهم خسرا ،ولا أدلّ على ذلك مما يحدث في تركيا ، والنتائج ماثلة لكل ذي لب ،ومن أراد الحق أن يعلمه .
لذا علينا أن نعي جيدا هذين التيارين قبل أن نخطو الخطوة الأولى ، وعلى كل عاقل قبل أن يتفوه بكلمة أن يعلم إلى أي اتجاه يسير ، ولم أر الشريعة تقر الإفساد في الأرض بحجة الإصلاح ، ولا أرى الإصلاح يتعنّت ويتحوصل في بوتقة فكر ضيق مقيد فيقيده، لأنه تحول عن الفكر الإصلاحي إلى الأنانية ، ولنا في كتاب الله الأسوة الحسنة ، في كثير من المفاسد التي حاربها الدين ، واستأصلها من حياة الناس،ولم يكن ذلك إلا بالحكمة والتدرج اللذين يوائمان بين رغبة الناس في الإصلاح وحاجتهم له ، وقابلية الواقع لذلك .