ها قد حلت الذكرى المئوية الأولى لـ سايكس – بيكو، وتزامنآ مع هذه الذكرى الأولى، علينا عدم إغفال حقيقة أن تبعات ونتائج هذه المعاهدة التقسيمية لمعظم بلدان المنطقة العربية يتم استكمالها اليوم فالمشروع التقسيمي مستمر للآن وهو قيد التنفيذ ويتم التمهيد لفصوله وأهدافه المستقبلية بشكل متسارع، وأن العمل فيه يسير الآن بشكل واسع وقد تم فعلاً خلق بيئة ديمغرافية وبؤر جغرافية على أرض الواقع لضمان استمرار إقامة هذا المشروع على أرض الواقع في الوطن العربي، فالهدف اليوم للكيان الصهيوني وحلفائه بواشنطن من وراء نشر هذه الفوضى المصاحبة لـ ربيع العرب بالوطن العربي، هو تأمين كيانهم المدعو بدولة «إسرائيل» في المنطقة وتوسيع نفوذه إلى أقرب نقطة يقدر من خلالها أن يكون هو السيد المطاع لمجموع ثلاثة وأربعين كياناً عرقياً ومذهبياً ودينياً تسعى الآن أميركا وبالتعاون مع بعض المستعربين والمتأسلمين لتأسيسها بالمنطقة العربية، فلقد وضع بعض قادة العالم بالغرب الذين ينتمون للحركة الصهيو -ماسونية خططهم لتقسيم الوطن العربي منذ أمد بعيد لتتوارثها الأجيال الصهيو – ماسونية جيلاً بعد جيل.
وبالعودة إلى اتفاقية سايكس – بيكو عام 1916، فقد كانت الاتفاقية عبارة عن تفاهمات سرية بين فرنسا والمملكة المتحدة “بريطانيا “لاقتسام الهلال الخصيب بين فرنسا وبريطانيا لتحديد مناطق النفوذ في غرب آسيا بعد تهاوي الامبراطورية العثمانية، المسيطرة على هذه المنطقة، في الحرب العالمية الأولى ، وتم الوصول إلى هذه الاتفاقية بين نوفمبر من عام 1915 ومايو من عام 1916 بمفاوضات سرية بين الدبلوماسي الفرنسي فرانسوا جورج بيكو والبريطاني مارك سايكس، وكانت على صورة تبادل وثائق تفاهم بين وزارات خارجية فرنسا وبريطانيا ،وتم الكشف عن الاتفاق بوصول الشيوعيين إلى سدة الحكم في روسيا عام 1917 مما أثار الشعوب التي تمسها الاتفاقية وأحرج فرنسا وبريطانيا وكانت ردة الفعل الشعبية، الرسمية العربية المباشرة قد ظهرت في مراسلات حسين مكماهون .
وبموجب ذلك تم تقسيم الهلال الخصيب بموجب الاتفاق، وحصلت فرنسا على الجزء الأكبر من الجناح الغربي من الهلال “سوريا ولبنان ومنطقة الموصل في العراق ” أما بريطانيا فأمتدت مناطق سيطرتها من طرف بلاد الشام الجنوبي متوسعا بالإتجاه شرقا لتضم بغداد والبصرة وجميع المناطق الواقعة بين الخليج العربي والمنطقة الفرنسية في سورية، كما تقرر أن تقع فلسطين تحت إدارة دولية يتم الاتفاق عليها بالتشاور بين بريطانيا وفرنسا ، ولكن الاتفاق نص على منح بريطانيا مينائي حيفا وعكا على أن يكون لفرنسا حرية استخدام ميناء حيفا، ومنحت فرنسا لبريطانيا بالمقابل استخدام ميناء الاسكندرونة الذي كان سيقع في حوزتها ، لاحقآ وتخفيفا للإحراج الذي أصيب به الفرنسيون والبريطانيون بعد كشف هذه الاتفاقية ووعد بلفور، صدر كتاب تشرشل الأبيض سنة 1922 ليوضح بلهجة مخففة أغراض السيطرة البريطانية على فلسطين،. إلا أن محتوى اتفاقية سايكس بيكو تم التأكيد عليه في مؤتمر سان ريمو عام 1920،وبعدها، أقر مجلس عصبة الأمم وثائق الانتداب على المناطق المعنية في 24 حزيران 1922 لإرضاء أتاتورك واستكمالا لمخطط تقسيم وإضعاف سورية، عقدت في 1923 اتفاقية جديدة عرفت باسم معاهدة لوزان لتعديل الحدود التي أقرت في معاهدة سيفر،وتم بموجب معاهدة لوزان التنازل عن الأقاليم السورية الشمالية لتركيا الأتاتوركية إضافة إلى بعض المناطق التي كانت قد أعطيت لليونان في المعاهدة السابقة .
بالمحصلة ،قسمت هذه الاتفاقية وما تبعها سوريا الكبرى أو المشرق العربي إلى دول وكيانات سياسية كرست الحدود المرسومة بموجب هذه الاتفاقية والاتفاقيات الناجمة عنها، وكألاتي ، العراق، استقل عام 1932 ، اما بالنسبه لمنطقة الانتداب الفرنسي على سورية فقد تم تقسيمها كألاتي “سورية، استقلت فعليا عام 1946 ، لبنان، استقل ككيان مستقل عام 1943 ، الأقاليم السورية الشمالية فقد ضمت لتركيا” ، الأردن استقل عام 1946 ، اما بالنسبه لفلسطين، ما أن انتهى مفعول صك انتداب عصبة الأمم على فلسطين يوم 14 أيار 1948 وجلى البريطانيون عنها ، حتى اعلن في اليوم التالي عن قيام الكيان الصهيوني المسخ المدعو بدولة “إسرائيل” فوق أجزاء كبيرة من حدود الانتداب البريطاني على فلسطين ،ومنذ ذلك الوقت بدأ الصراع العربي -الصهيوني، وعليه فقد قسمت فلسطين التاريخيه إلى ثلاث وحدات سياسية وهي أسرائيل والضفة الغربية وقطاع غزة ، وفي عام 1994 قامت السلطة الوطنية الفلسطينية كسلطة شبه مستقلة تأسست وورثت أجزاء ضيقة من حدود الانتداب البريطاني السابق على الضفة الغربية لنهر الأردن ومنطقة غزة التي كانت تتبع مصر إداريآ.
بالمحصلة وبعد تقسيم بلاد الشام والعراق ،مازالت مخططات تقسيم المقسم مستمرة لليوم ،ففي التاريخ العربي الحديث هناك ظواهر عدة، أثبتت أن حديث ومخططات تقسيم وتفتيت الوطن العربي قد أصبحت بالفعل عقيدة ورأس حربة جديدة للاستعمار الصهيو-أميركي الجديد للمنطقة العربية، والدليل هو ما جرى أخيراً في العراق وما يخطط لسورية وليبيا واليمن ومصر ..وو..ألخ، ومن هذه الادلة ما قدمته لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأميركي من مقترحاً للتصويت على مشروع قانون يقسم العراق، ويتعامل مع الأكراد والسنة في العراق كبلدين منفصلين عن بغداد، وهذا الطرح هو تمهيد مبدئي لتحقيق مشروع نائب رئيس الأميركي جون بايدن في تقسيم البلاد إلى أقاليم على أسس طائفية وعنصرية وقومية، ويأتي هذا الطرح استكمالاً لمشروع كان قد صوت عليه مجلس الشيوخ الأميركي كشرط لانسحاب القوات الأميركية من العراق في 29/09/2007، وينص على تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات سنية في أجزاء من وسط وغرب وشمال العراق، وشيعية في أجزاء واسعة من وسط وجنوب العراق، وكردية في أقصى شمال العراق، وهذه الحقيقة الآن لا تقبل التشكيك فالوقائع على الأرض وتغير العامل الديمغرافي على الأرض العراقية يؤكد للأسف كل هذه الحقائق.
وفي الإطار ذاته، وتزامناً مع طرح في مجلس النواب الأميركي لمقترح تقسيم العراق، فقد كشفت مجلة “تايم” الأميركية في تقرير موسع من ثماني صفحات نشر بتاريخ 30/04/2015، عن تفاصيل خطة تقسيم العراق إلى ثلاث دول، واحدة منها في الشمال لكوردستان، والثانية للسنة بمحاذاة سورية، أما الثالثة فللشيعة ومكانها في جنوب العراق وتضم مساحات واسعة منه، ومن الجدير بالذكر هنا، أن مجلة «تايم» التي تعبر في اغلب الأحيان عن وجهة نظر الإدارة الأميركية، تحدثت في تقريرها عن ضم المناطق الكردية في سورية إلى الدولة الكردية، إضافة إلى ضم بعض المناطق السنية في شرق سورية للدولة السنية العراقية، ونشرت المجلة خرائط مفصلة توضح مناطق توزيع الكرد والسنة والشيعة، وعدت بغداد من ضمن الدولة السنية، أما كركوك فكانت داخل الدولة الكردية لكنها على خط التماس مع دولة السنة، أما الدولة الشيعية الجديدة، فهي ستتجه جنوباً حيث تصل إلى الكويت، لتستقطع مناطق حيوية منها إلى أن تصل أيضاً إلى ضم بعض أجزاء من شمال شرق السعودية.
إن هذه التفاصيل المذكورة أعلاه وبمجملها، تؤكد بما لا يقبل الشك أن هناك مساراً فعلياً اليوم لتنفيذ المشروع الصهيو -أميركي، الذي يهدف إلى إضعاف العراق وسورية، وتمزيقها وتفتيتها كنقطة أساس لتمزيق وتفتيت المنطقة العربية ككل، وهذا ما يؤكد بما لا يقبل الشك أيضاً، أن الهجمة التي تتعرض لها المنطقة العربية والإقليم ككل، هدفها بالأساس هو تمزيق هذه المنطقة خدمة للمشاريع الاستعمارية الصهيو -أميركية.
ختاماً، يقول عراب الصهيونية الأميركي المتصهين برنارد لويس في أحد كتبه المنشورة قبل ما يقارب الثلاثة عقود من الآن، شارحاً طبيعة ومسارات الغزو المستقبلي الصهيو -أميركي للمنطقة العربية، ويقول فيها: «إن الحل السليم للتعامل مع العرب المسلمين هو إعادة احتلالهم واستعمارهم، وتدمير ثقافتهم الدينية وتطبيقاتها الاجتماعية، وفي حال قيام أميركا بهذا الدور، فإن عليها أن تستفيد من التجربة البريطانية والفرنسية في استعمار المنطقة، لتجنب الأخطاء والمواقف السلبية التي اقترفتها الدولتان، وإنه من الضروري إعادة تقسيم الأقطار العربية والإسلامية إلى وحدات عشائرية وطائفية، ولا داعي لمراعاة خواطرهم أو التأثر بانفعالاتهم وردود الفعل عندهم، فنحن نضمن أن عملاءنا أنجزوا كل شيء ولم يبقَ علينا إلا التنفيذ الآن، ولذلك يجب تضييق الخناق علي هذه الشعوب ومحاصرتها، واستثمار التناقضات العرقية، والعصبيات القبلية والطائفية فيها، التي أسس لها حكامهم، لذلك يجب أن تغزوها أميركا وأوروبا لتدمر الحضارة الاسلامية فيها»، فهل تصحو أمة العرب بعد مئوية سايكس – بيكو قبل أن تغزوها أميركا؟ السؤال سيُترك برسم الإجابة لدى كل مواطن عربي من المحيط إلى الخليج.
هشام الهبيشان