تعلق في الذاكرة الأردنية منذ منتصف خمسينيات القرن الماضي صورة الجندي بزيه العسكري، ورافق هذا الزي منتسبي القوات المسلحة والأمن العام وقوات البادية في كل مناسباتهم الخاصة والعامة.
وكان من المستغرب في تلك الفترة رؤية أي جندي أو منتسب للقوات المسلحة أو الأجهزة الأمنية بغير اللباس العسكري، وكان يطلق على اللباس المدني في ذلك الوقت اسم لباس (السويل) وهذه الكلمة جاءت أصلاً من الكلمة الانجليزية ( civil ) ونحتت باللهجة الأردنية لتكون (سويل).
وان كانت تلك الفترة والظروف الأمنية والسياسية فيها ما يبرر التقيد والالتزام الدائم بارتداء الزي العسكري، فإن الظروف والواقع المعاصر اليوم يسير في اتجاه التمسك بالزي المدني لكثير من الأجهزة العسكرية، التي لها علاقة وتماس مباشر في تقديم خدمات مجتمعية للمواطنين.
فلا مبرر اليوم لأداء الأطباء والممرضين لواجبهم في المستشفيات والعيادات الطبية العسكرية بالزي العسكري، بل إن الزي المدني الموحد لكل من يعمل في الخدمات الطبية والخدمات الصحية يجب أن يقدم ويكون له الأولوية والأفضلية. كما أن الزي العسكري للمدرسين في مدارس الثقافة العسكرية يجب أيضاً أن يكون لباساً مدنياً لا لباساً عسكرياً، وهذا ينطبق أيضاً على مكاتب التعبئة والتجنيد.
وفي الجانب المتعلق بالأجهزة الأمنية، فما الداعي لإلزام مرتبات مديرية ترخيص المركبات والسواقين باللباس العسكري أثناء تأدية عملهم الرسمي، وما هي الرسالة أو الدلالة التي يمكن أن يحملها اللباس العسكري لمرتبات أمن الحدود والجوازات، ذات التعامل المباشر مع المواطن المدني.
وحتى في الوظائف ذات الطبيعة المدنية البحتة، انفرط الأمر وأصبح يسير في اتجاه العسكرة لمؤسسات مدنية يقتصر تعاملها المباشر وغير المباشر على تقديم خدماتها للمدنيين من مستثمرين، ومسافرين، وتجار، ومواطنين، كدائرة الجمارك الأردنية.
فهذه مواقع توجه خدماتها وأعمالها لخدمة المواطن المدني بشكل رئيسي، ولابد أن يكون اللباس السائد لمرتباتها (السويل) لأن هيبة اللباس العسكري لا تعزز تطبيق القانون، ولا تسهم في تنفيذ الأنظمة والتعليمات، وفي ذات الوقت لا تحد من التجاوزات والمخالفات.
ثم إن تعامل المواطن بلباقة واحترام عند مراجعته لأي مؤسسة أو دائرة سواءً كانت مدنية أو عسكرية، يمكن أن يكون من غير خوف من اللباس العسكري الذي أصبح اليوم سمة من سمات الحكومات الاستبدادية العسكرية في كثير من دول العالم المتخلف.
فالتطور الديمقراطي الذي نعيشه في بلادنا يجب أن يواكبه تطور حضاري وتعامل مدني، وترك التعامل بالعقلية العسكرية. ثم إن نجاح مؤسسات عسكرية ومدنية ورقابية تتعامل مع المواطن بزيها المدني (السويل) كمكافحة الفساد، وشرطة الأسرة، ومكافحة المخدرات، والأمن الوقائي، والأمن العسكري، وأجهزة الرقابة في مؤسسة المواصفات والمقاييس، ودوائر الرقابة الصحية، ومراقبي البلديات، يعزز السير في هذا الاتجاه، ويدحض نظرية العسكرة التي لازالت قائمة ولازالت تجد من يدعو لها باستمرار.
فالدعوة اليوم لكل المؤسسات العسكرية وشبه العسكرية التي تتعامل مع المواطن بشكل مباشر في تقديم خدماتها المجتمعية أن تتمدن بتعاملها وزيها، لا أن تبقى تتعامل بالعقلية العسكرية، فالعرفية دفنها الحسين بن طلال طيب الله ثراه، واستبدلها بالديمقراطية، والديمقراطية في بلدنا نهج يرعاه الملك عبدالله الثاني حفظه الله، فالدعوة اليوم تسير نحو المدنية والرقي لا نحو الاستبداد والعسكرة.