إن قراءة واقع التعليم وسياساته فى الوطن العربى تقتضى تحليل الخطاب التربوى المتحكم بهذا الواقع والمنتج لتلك السياسات، وتحليل الخطاب يتحقق من خلال الانفتاح على كافة مستوياته المعرفية والفلسفية واللغوية والسيمائية وإطاره السوسيوثقافى والجيوسياسى، حيث تحليل الخطاب ليس إلا تحليلاً يعكس واقع المجتمع العربى وبنيته الحضارية والسياسية وإفرازاتها على مستويات البناء المؤسسى والثقافى فى مجالات العمل السياسى والعمل التعليمي، حيث التعليم المدرسى فى جوهره هو عمل سياسى مقصود ومنظم.
واقع الخطاب التربوي العربي:
يمكننا التمييز بين نوعين من الخطاب التربوي الذي يهيمن في الساحة الفكرية التربوية في هذه المرحلة الحساسة والدقيقة في تاريخ التطور الحضاري للمنطقة فى فترة ما بعد ثورات الربيع العربى، وهما:
- النوع الأول يتمثل في الخطاب التقليدي السائد الذي يعلي من شأن الأوضاع التربوية القائمة، ويتجلى في الكتابات العربية التربوية، حيث يقوم كثير من التربويين العرب بتقديم أنظمتهم التربوية على أنها الأفضل عالمياً والأجود عربياً. ويأتي ذلك بتأثير عدد من المتغيرات الاجتماعية والفكرية والسياسية. ويشكل هذا الاتجاه أحد أخطر عوامل الأزمة الحضارية والتربوية في العالم العربي وأشدها فتكاً وتدميراً، حيث يشكل جبهة لرفض التوجهات النقدية والعقلانية للتربية العربية.
- النوع الثاني: الخطاب التربوي ذو الطابع النقدي، ويمثل هذا الاتجاه طليعة من المفكرين الذين تناولوا التربية العربية من منظور نقدي. وتتمثل أزمة الفكر النقدي التربوي في نمط من الشعارات التي لم تتغير والمقولات التي لم تتبدل على مرّ الزمن. وهذه الأزمة تشكل المهاد الحقيقي لأزمة ثقافية تربوية تتمثل في عقلية تقليدية مضادة للتجديد والتطوير، كما تتمثل في تغييب كبير لكل مقومات الفكر النقدي والفلسفي والانكفاء على منظومة من الرؤى والمقولات المتقادمة تاريخياً.
- مظاهر الأزمة الراهنة:
تتنوع مظاهر أزمة الخطاب التربوى العربى لتتضمن:
1- عجز الخطاب التربوي والنظم التعليمية العربية عن مجابهة المشكلات الكبرى التى يعانى منها الواقع العربى، وعجزه عن الانخراط فى قراءة الواقع الاجتماعى والحضارى لصياغة خطاب فكرى تساؤلى نوعى يسهم فى تغيير هذا الواقع طبقا لرؤية علمية.
2- عجز النظام التربوى عن التأسيس لثقافة تسهم فى الديمقراطية الحقيقية للمجتمع العربى وفى تكريس مبادئ التكافؤ الشامل فى الفرص التعليمية والاجتماعية، واستقراء واقع المدرسة العربية يؤكد على تقصير الخطاب التربوى العربى فى تحقيق العدالة التعليمية كمقدمة لتحقيق نوع من تكافؤ الفرص من جهة، وتقصيره فى إبداع أشكال وهياكل وصيغ تمأسس للديمقراطية، وتعمل على تأصيلها عربياً.
3- انفصال مضامين التربية وغاياتها وتوجهات التعليم وكيفياته عن الأوضاع الثقافية والاجتماعية، والعمل على تسييد مفاهيم تعليمية وتوجهات تربوية سلطوية المضمون غيبية الشكل وذلك يرجع إلى تحكم التوجهات الآتية فى الخطاب التربوى وعمل المؤسسات التربوية:
- التركيز على المعرفة التقنية وتأهيل الكوادر البشرية، وذلك بسبب الهيمنة التكنولوجية على الثقافة المعولمة، و الإهمال المتعمد لقضايا الإنسان والمجتمع.
- ابتعاد المدرسة عن المجتمع، وتقلص دورها كمؤسسة فاعلة فيه تهدف إلى تفعيل الحراك الاجتماعى، والعمل على الوصول إلى المهمشين للارتقاء بهم لتحقيق نوع من تكافؤ الفرص بغية إحداث نقل الفعل التعيمية من فعل ينشئ نخب إلى فعل يؤنسن المجتمع.
- واقع المدرسة العربية حيث تقدم المعارف بشكل منفصل ومتباعد، وانفصال المعارف المدرسية عن تجربة الناس وعن واقع الثقافة المجتمعية، فلم تسهم الثقافة المدرسية فى بناء الإنسان أو المواطن ذى الشخصية الفاعلة، المنسجمة وعياً وسلوكاً وتصوراً مع مهمته لمواجهة الواقع والمستقبل.
4- عدم إسهام الفعل المدرسى ومخرجاته فى تحديث قطاعات العمل والتنمية ولا فى تغذية وتنمية الطاقات الإنتاجية والاقتصادية و الثقافية، وانفصال مخرجات النظام التعليمي العربي عن واقع احتياجات المجتمع، مما أدى إلى الإبقاء حالة التخلف الاقتصادى والثقافى والفنى من جهة، وتكديس حملة الشهادات بلا عمل، وهجرة معظم الكفاءات إلى خارج المجتعات العربية.
الطالب والخطاب التربوى:
إن اهتمام الخطاب التربوى العربى بالمعارف واعتماده على النقل والتلقين وسيلة، جعل هذا الخطاب ينعزل عن الطالب، ومنع الطالب أن يكون محوراً للعملية التعليمية، وبالتالى منع تحقيق التعليم كحوار وكممارسة بحثية استقصائية وتأملية.