منذ تصريح معالي وزير التربية فيما يتعلق بإلغاء مصطلح (ناجح / راسب ) من معايير التحصيل العلمي ،واعتماد النسب والوزن النسبي للمواد ، تهافت المعلقون من مختلف الفئات الثقافية والإعلامية لتحليل هذه الرؤية ، والقفز على أبعادها .
ومن يراقب واقع التجاذبات لما يتم تداوله من هذه التحليلات ، يرى تقوقع التفكير العام في كهف الموروث ، وصبغة النظم العالمية التي بات الكثيرون يصنعون من كيانهم عالة عليها ، ويلجأون إليها في دحض حجج الأخرين وانتقاداتهم ،حتى باتت عباراتهم المكررة أشبه ما تكون بعقيدة لهؤلاء المفكرين ومن يحوم في فضائهم :"النظام المعمول به عالميا ".
من وجهة نظري المتواضعة ،أرى أن الواقع حقيق بالمراجعة ، وجدير بأن تطرح له أفكار جريئة ، تحاول استئصال الداء أو وقف انتشاره ، لذا أؤيّد وبكل ثقة رؤية معالي وزير التربية الإصلاحية هذه .
نعم ، يحتاج الواقع إلى مراجعة ؛ فمعظم القوانين والأنظمة التي عملت عليها الجهات المسؤولة سابقا ، جاءت بمخرجات ساهمت في تعميق الهوّة في الواقع ، إذا يتزايد عدد حملة الشهادات العلمية وتقل أمامهم فرص العمل ، وفي المقابل يتزايد الطلب على العمالة الوافدة وأصحاب الحرف اليديوية والمهنية ، ويُرى التناقض على أشده عندما تسمع دعوات نفض ثقافة العيب ، والتوجه للعمل الميداني والحرفي ،في الوقت الذي يتقاضى فيه الجامعيون الإداريون في سلم وظائف الدولة دخلا يكاد يوازي ضعف مايتقاضاه صاحب الحرفة ، أو من يعمل بيديه بعيدا عن المكاتب والأوراق !
وعلى صعيد آخر ، جعلت هذه السياسات التربوية والتي تعمقت في ثقافات أبناء المجتمع، الفرق والتمايز بين الناس بقطعة الورق التي يحملها الفرد منهم واصطلح على تسميتها ب(الشهادة) ،فأصبحت حدا فاصلا بين من يفهم ومن لا يفهم ، وبين المثقف والمتخلّف ، وبين المتعلم والجاهل ، في حين يعلمُ هؤلاء الذين صاغوا السياسات والأنظمة والقوانين التربوية ، أن معظم عباقرة العالم ممن أقاموا الدنيا وأقعدوها بما أنتجته عقولهم ،كانوا فاشلين دراسيا ،ولا يحملون قطعة الورق هذه "الشهادة" التي تدينون بها، فأي تناقض هذا !!!
إن المنطق السليم يقتضي مراجعة شاملة لجميع سياسات الدولة ، وليس التعليم فقط ، في كل عقد ، أو على الأقل مع كل جيل يمر .
ومن العجب ،أن يبحث التربويون والمشرعون عن الإبداع عند المتعلمين ، وينسون جانب الإبداع في التشريع وهو الأولى في هذا المقام ؛ لأن حاجة الواقع ماسّة لمشرّع مبدع بدءاً، قبل التنقيب عن الإبداع في مجالاته الأخرى ! ولعل القانون العقيم ، والنظام الجاف ، والمشرّع المقلد ، كانوا جميعا سببا في وأد جميع أو معظم الطاقات الإبداعية عن أبناء الوطن وبناته .
ومن عجب أيضا تسيلمنا جميعا بالتمايز بين الأفراد والجماعات ، واختلاف طاقات البشر وإمكانياتهم ؛ إذ تظهر نتائج ذلك كله في اختلاف الطبائع والعادات والتقاليد ، ومع هذا يذهب بعض عقيمي التفكير والتطوير، فيسلخ من المجتعات الأخرى ما لديهم من قوانين وأنظمه صاغوها لتوافق طبائعهم وتلبي حاجات أبنائهم ومجتمعاتهم ، ويأتي بها مغلفة ليسقط واقع أمّة مختلفة بكل المعايير عليها ! فيفرضوا على الإنسان أن يتكيّف مع القوانين والأنظمة ،ويتماهى معها ، بدلا من أن يكيّفوا القوانين والأنظمة لتلبي حاجات الفرد وإمكانياته وفق المجتمع الذي ينتمي إليه!!
إن نسبة المتميزين تعليميا ممن يجيدون فنون القراءة والكتابة بين الطلبة لا تزيد عن 40% في أحسن أحوالها ، وهذا حد منطقي ؛ إذ لا تستقيم الحياة لو خرّجت جامعاتنا أطباء ومهندسين فقط !!
فلا بد من التمايز ، ولا بد من وجود تشريع ينقذ طلابنا وأبناء الوطن من حد الشهادة وتبعات هذا الحد ، ويلبي حاجات ميدان الحياة الحقيقية من الطاقات المنتجة والمفكرة والمبدعة ، لا أنْ تُكدِّس للوطن شهادات ورقية عجماء ، تكون عبئا عليه وعلى مستقبله ؛ لذا أرى الدعم والتأييد لبرنامج الرزاز الإصلاحي ...