بعد إعلان الأردن قراره بعدم السماح لطاقم السفارة الإسرائيلية بمن فيهم السفيرة بالعودة لعمان، سعت حكومة نتنياهو إلى اختبار مدى جدية هذا الإعلان، فتقدمت بطلب رسمي لوزارة الخارجية للسماح بعودة طاقم السفارة إلى عمان فورا. في وقت قياسي ردت وزارة الخارجية بالرفض القاطع وبأقسى العبارات، واعتبرت سلوك حكومة نتنياهو "غير الإخلاقي وغير الإنساني" والمخالف للأعراف القانونية انتهاكا صريحا لايمكن قبوله، واشترطت اعتذارا إسرائيليا وتعهدا ملموسا بمحاكمة قاتل الإردنيين للنظر بعد ذلك في إمكانية عودة السفير وطاقم السفارة.
ظهر أول من أمس الخميس تأكد للجميع بمن فيهم حكومة نتنياهو أن الأزمة مع إسرائيل تخطت الطابع الدبلوماسي وتحولت إلى أزمة سياسية كبرى، بعد تصريحات الملك عبدالله الثاني التي حمل فيها بشدة على نتنياهو وسلوكه المستفز، فقد أعلن الملك بوضوح أن تعامل إسرائيل مع قضية السفارة ومن قبل مقتل القاضي رائد زعيتر وغيرها من القضايا سيكون له الأثر المباشر على طبيعة العلاقة مع إسرائيل مستقبلا.
نحن إذن امام تهديد مفتوح على كل الاحتمالات السياسية والقانونية، يذكّر بما قاله الملك الحسين رحمه الله بعد محاولة الموساد الإسرائيلي اغتيال خالد مشعل في عمان، عندما وضع المعاهدة في كفة مقابل حياة مشعل.
ومن هنا يمكن قراءة زيارة الملك لبيت عزاء الشهيد الجواودة. إنها ليست خطوة سياسية فحسب، بل أخلاقية يؤكد فيه الملك وقوفه وتضامنه مع الضحية مقابل سلوك مشين وغير أخلاقي من طرف نتنياهو تمثل بمعانقة القاتل والاحتفاء فيه.
ينبغي علينا منذ الآن وصاعدا أن نتمسك بالفصل بين مسارين للقضية. المسار القانوني والمسار السياسي.
على المستوى القانوني يجب أن تكون الحكومة واضحة في موقفها؛ التنازل عن محاكمة القاتل كان استجابة لنصوص اتفاقية دولية ملزمة لكافة الدول تمنح الدبلوماسيين الحصانة، وليس لإسرائيل، وهي كما وصفها رئيس النيابة العامة الدكتور أكرم المساعدة حصانة إجرائية لا تعفي المتهم من المحاكمة أمام محاكم دولته.
إسرائيل لم تلتزم بهذا المسار، فنشأ بالضرورة مسار سياسي للأزمة، يعطي الحكومة الأردنية الحق باتخاذ ما يلزم من خطوات للرد على السلوك المعيب من طرف إسرائيل، والانتصار لكرامة الأردنيين وحقوقهم.
نتنياهو شخص منحط أخلاقيا وسياسيا، وسيراوغ طويلا لتجنب محاكمة "البطل" القاتل، ولن يتردد في ممارسة الضغوط على الأردن عبر البوابة الأميركية ليضمن عودة السفيرة إلى عمان. ومثلما فعل في قضية الشهيد زعيتر، سيراهن نتنياهو على الوقت لتبريد الأزمة وطيها.
نعرف جميعا أن إسرائيل تملك حصانة دولية من المساءلة، وتعتمد على دعم الغرب لتحدي إرادة المجتمع الدولي، وبغير ذلك ما كان احتلالها لفلسطين ليبقى يوما واحدا. لكن لم يبقَ لدينا في الأردن ما نخسره في العلاقة مع إسرائيل. أوشكت الثقة الشعبية بمؤسسات الدولة على الانهيار الكامل في الأزمة الأخيرة، وأصبحت العلاقة مع إسرائيل خيارا باهظ الكلفة على الدولة. إنها تعرض دورنا في "الأقصى" لاختبارات صعبة باستمرار، وتتبنى سياسة كارثية في الأراضي المحتلة، تهدد مصالحنا الوطنية في المستقبل، وتجر المنطقة كلها باتجاه حرب دينية طاحنة تعزز التطرف والإرهاب.
بقدر ما مثله الإرهاب من مصدر تهديد للأمن الوطني الأردني كان في ذات الوقت عاملا لتعزيز الثقة بين الدولة والشعب، تجلّى في وحدة الهدف والموقف. في المقابل تتقدم إسرائيل سلّم مصادر التهديد حاليا وتصبح العامل المباشر في انهيار الثقة. لا يمكن للدولة الأردنية مهما بلغت ظروفها والتزاماتها الدولية أن تتحمل هذا الوضع طويلا.