زاد الاردن الاخباري -
يحجز قضاء دير الكهف مكاناً ثابتاً له ضمن قائمة جيوب الفقر منذ أن بُدئ باستخدام هذا المفهوم العام 2005.
وقضاء دير الكهف -لمن لا يعرف- يقع على الحدود الشمالية الأردنية مباشرة، ويتخذ شكل شريط يمتد بطول يتجاوز 30 كلم وبعرض حوالي 10 كلم، ويضم خمس قرى و13 تجمعاً سكانياً، ويبلغ عدد سكان القضاء حوالي 10 آلاف نسمة موزعين على 2067 أسرة، وذلك وفق آخر إحصاء للسكان عام 2015.
تقول أرقام الفقر الرسمية أن نسبة الفقر في دير الكهف عام 2005 كانت حوالي 35 % وارتفعت هذه النسبة في آخر تقرير رسمي منشور عن الفقر في الأردن (عام 2012) إلى حوالي 43 % وهو تقرير مبني على إحصاءات عام 2010. ولم تصدر بعد ذلك تقارير رسمية.
صنف الكلام المطلوب
ولهذا التقرير قصة تعود بدايتها إلى العام 2009 وتكتمل في مطلع هذا الشهر (أيلول 2017)، وقد يكون من المفيد والمسلي "للأسف" ذكرها باختصار:
كنت في شتاء 2009 أجري بحثاً في المنطقة في موضوع لا علاقة له بالتنمية أو الفقر، التقيت هناك مجموعة أشخاص، وسألتهم على الهامش عن موضوع الفقر، فأجابوا إجابات "رسمية"! (فقد تكوّنت لدي مع الزمن معرفة بإجابات المواطنين التي تخفي خلفها أموراً مختلفة عما يقال). فاستأذنتهم بالعودة مرة أخرى للسؤال المخصص عن الفقر، وعدت فعلاً بعد أيام.
التقيت بضعة مواطنين، ولاحظت انهم منذ البداية، استفسروا بدقة عن مهمتي وسبب قدومي وهدفي وما هي وظيفتي، وبعد زمن من أسئلتي التفصيلية، اعتدل المتحدث الرئيسي في جلسته وسألني سؤالاً غريبا وطريفاً في الوقت ذاته: قل لي يا أخي، هل تريد كلاماً من النوع الذي نقدمه للمسؤولين أم من النوع الذي نقدمه أمام الأجانب الممولين للمشاريع، أم تريد كلاما "بلديا" عادياً؟
قلت له على الفور: أريد هذا الصنف الأخير "البلدي". ثم أوضح لي أنه خبير في المقابلات مع الضيوف، وأنه كثيرا ما يحصل أن يتصلوا به من الوزارات ويطلبوا منه أن "يبيض الوجه" أمام الضيوف وخاصة الأجانب.
في تلك اللحظة اختلف منحى الحديث ومحتواه ومستواه، وكالعادة في المناطق الفقيرة فإن قسما من السكان، ومن بينهم "فقراء ممارسون"، تكونت لديهم آراء فيها من الحصافة التنموية ما يفوق ما لدى خبراء المكاتب الذين يعالجون الفقر عن بعد.
دير الكهف في وثائق الفقر
لقضاء دير الكهف نصيب من سلسلة الدراسات التي أعدتها وزارة التخطيط عن جيوب الفقر العام 2005 كمرجعية لمعالجة الفقر، وتضمنت الدراسات معلومات كمية ونوعية عن المناطق المعنية وواقعها وخصائصها السكانية والاجتماعية وواقع الخدمات فيها، وغير ذلك من بيانات. وهناك دراسات أخرى لمنظمات مجتمع مدني أخرى أهلية أو شبه رسمية.
بالاجمال تتعامل الدراسات مع المجتمعات المحلية من خلال "نشطاء" على شكل نخبة محلية تحوّل أعضاؤها مع الزمن إلى ما يشبه "الزبائن" للباحثين والمسؤولين والزوار، فعادة ما تكون الدراسة محددة زمنيا بإطار غير كاف، ويقوم بها كادر يتعامل مع المجتمعات المحلية كنماذج وأنماط، بحيث تبدو التقارير متشابهة إلى درجة كبيرة بينما هي تخص مجتمعات متنوعة. وتحولت لقاءات المسؤولين مع المجتمع المحلي إلى جلسات "تمثيل"، وأحياناً توزع الأسئلة والأجوبة، وغير ذلك من ممارسات تنطوي على قدر من التعالي تجاه المجتمع المحلي وقضاياه.
سنتاول فيما يلي، وبشكل سريع، نموذجين (مشروعين) تجاوزت كلفتهما المالية 400 ألف دينار، لكنهما الآن عبارة عن "خرائب" تقف، كعشرات المشاريع الأخرى المنتشرة في كل جيوب الفقر، شاهدة على الهدر وسوء الإدارة والتخطيط، وعلى الإحباط المحلي والقهر والحزن، تجاه مشاريع سجلت باسم الفقراء وحسبت عليهم، وبعضها تسجله الأوراق كقصص نجاح!
المشروع الأول: اسمه "مصنع ألبان البادية الشمالية" وأقيم في قرية "مريجب" الواقعة في منطقة متوسطة نسبيا في القضاء. عندما زرته في المرة الأولى العام 2009 كان مغلقا ومتوقفا عن العمل لخمس سنوات بعد أن عمل لفترة ستة شهور فقط، واشتغل فيه عدد من العاملات والعاملين، لكن القائمين على المشروع فاوضوا العاملين والعاملات على "نصف" أجورهم، وإلا: "راجعوا عمان"! فقبلوا بالعرض!
المصنع أقيم وفق مواصفات حديثة، وكانت فكرته تقوم على شراء الحليب من مربي الماشية المنتشرين في البادية مع ماشيتهم، بأسعار أفضل مما هو دارج، على أن يقوم بتشغيل شباب وشابات من المنطقة في مجال هم أصلاً على ألفة معه وخبرة فيه.
بحسب المتحدثين، فإن التصور الذي قدم للأهالي لم يكن متوافقاً مع تصورات السكان لحاجاتهم، فقد أقيم المشروع بهدف صناعة الأجبان من حليب الماعز، وهو موسم محدود زمنياً بأربعة شهور في السنة فقط، واقترح السكان أن يشمل المصنع خطوطا لمنتجات اخرى غير الجبنة، بحيث يستمر العمل على مدار العام.
لم يراع مخططو المشروع المساحة الواسعة التي ينتشر فيها مربو الأغنام في البادية، ولا الطريقة التي اعتادوا عليها في التصرف بالحليب، حيث يتجول في البوادي مشترون من أصحاب مصانع الألبان القائمة التابعة للقطاع الخاص، يستلمون منهم منتجهم حيث هم في مواقع رعيهم وإقامتهم "التعزيب"، بينما اشترط المصنع الجديد أن يُحضِر المربون الحليب إلى المصنع، مع تعويض السعر، لكن الأسلوب الجديد بدا غريباً وغير عملي بالنسبة لهم.
عند زيارته في عام 2009 كان المصنع مغلقاً على محتوياته بانتظار حلول ومقترحات أخرى، وعندما زرته حديثا قبل أيام في أيلول من هذا العام، لغايات إعداد هذا التقرير، كانت المفاجأة أن المصنع، بلا أبواب وبلا شبابيك وقد نهبت محتوياته الداخلية والخارجية، ووجدت لحظة دخولي لالتقاط الصور، فتيين مراهقين كانا يقومان بالإجهاز على المحول الكهربائي الداخلي الخاص بالمصنع. (تلاحظون في الصور المرفقة حالة المصنع في صور سابقة وحديثة).
المشروع الثاني: منشار حجر يقع في قرية "جبية" في الجزء الغربي من القضاء. وهو واحد من مشاريع مماثلة (مناشير حجر) أقيمت في مناطق مختلفة، وقد تحولت إلى خرائب، بينما هي مسجلة كمشاريع تنموية باسم المناطق والبلديات. والغريب أن هذه المناشير أقيمت في مناطق اشتهرت بمشاريع مماثلة ناجحة ورابحة في المجال ذاته. بل إن منشار الحجر هذا في دير الكهف يقع في منطقة تمتاز بصنف خاص من الأحجار البازلتية السوداء والتي يمكن التزود بها بالمجان، وقد لاحظت فعلاً أكواماً منها داخل المشروع جُلبت أثناء الفترة المحدودة التي عمل فيها المنشار.
فقر البادية
من بين 27 جيبا للفقر في آخر إحصائية، توجد 15 جيبا منها في مناطق البادية، وفي قوائم جيوب الفقر السابقة لم تكن تقل حصة البادية عن النصف.
تتعدد الجهات المشتغلة بالفقر في البادية، وتحيل وزارة التخطيط مشاريعها كعطاءات على جهات منفذة ومتنفذة، والنتائج محزنة وظالمة وعكسية بالاجمال، فهي ليست غير مجدية فقط، بل هي تسهم في تراكم الإحساس بضياع الأمل والإحباط، وقد فقدت كلمات مثل التنمية ومكافحة الفقر كل معانيها.
فقر البادية له خصوصيته، فهو فقر صامت، مختبئ خلف الأبواب والجدران، وأفضل الخبراء فيه وفي علاجه، هم أهله الذين خلال عشرين عاما من مكافحة الفقر لم يجدوا من يستمع إليهم بثقة ويلتقي في منتصف الطريق مع خبرتهم في البقاء ويبني عليها.
الغد