رآها كالسنديانة ممشوقة قامتها، مع اختلاسه للنظرة الأولى، خفق قلبه وبدأت دقات قلبه تتسارع. كان مع كل حرف من حروفها كلما نطقت أو همست, يشعر كأن عسلا يتقطر من شفتيها، وكان لابتسامتها وقع خاص، صورة التصقت بجدار قلبه وصارت مرجعا يستدل به كلما احتاج قلبه للشعور بالحب.
زادت خفقات قلبه, وزاد قلبه تعلقا بها، فقد كان قد رسم لها صورة جميلة لكنه وجد الواقع أجمل من الخيال، فابنة عمه أجمل من رأى من الفتيات، فقد كان حين يتقاطعان صدفة بالطريق يلمحها بنظرة جزئية وسريعة، خجولة غير مكتملة، لكنه هذه المرة امتلأت عيناه منها، فبدأت دقات قلبه تتسارع ومع كل خفقة من خفقات قلبه يصرخ بصوت غير مسموع إنها هي...هي من أبحث عنها...هي وهي فقط من أريد.
جلست في ركن من أركان الغرفة تحاول أن تتوارى عنه، لكنه كالمقطوع من الماء في الصحراء الذي وجد ماء ففاضت يداه وابتلت حنجرته وعادت له الحياة. أو كمن أمضى سني عمره يبحث عن كنز مفقود وبانت عليه أول إشارة تدل على أنه وصل مبتغاه.
انتابه شعور لم يكن قد انتابه من قبل، شعر باندفاع شديد نحوها.
أسعفه القدر، لملم ما استطاع من عزيمة وشحن نفسه بالإرادة والتصميم, وقرر أن يخوض مغامرة تقوده إلى الخطبة والزواج. أسعفه القدر وكان له ما أراد، رغم إنها حقا مغامرة ستزيد من أعبائه، فأعباؤه كبيرة ومسؤولياته أكبر من أن يقدم على مغامرة تزيد من حمله الثقيل. لكن الأمر حسب وجهة نظره يستحق المغامرة ويستحق التضحية، فهو استجابة لرغبة جامحة في نفسه في أن ترتبط روحه قبل عواطفه بروح من أحس أن كل قوى الجذب ترتسم على محياها، وأن كل قوى الدفع تدفعه نحوها.
أخبر والديه بحقيقة شعوره وما يدور بنفسه من تفكير، فبدت تباشير الفرح ترتسم على محياهما, فابنهما البكر سيتزوج وسيقترن بواحدة من حواري الدنيا، فهما يتفقان معه على أنه أحسن الاختيار.
لقي تشجيعا كبيرا من والديه ودفعا قويا باتجاه الاقتران بعقد القران، ولم يمض يوم من المشاورات في كيفية حل عقدة التكاليف إذ وجدوا أنفسهم في اليوم التالي, الوالد والوالدة وابنهما يسيرون باتجاه الهدف بعد أن كانت كل المعضلات المادية تبدو محلولة وأن الأمور سهلة وميسرة وما زاد في تيسيرها الموافقة على الفكرة من قبل أهل المخطوبة والذهاب إلى أبعد حد في تسهيل مهمة الخطيب، وكان لجواد ما أراد. واقترن جواد رسميا بمن أراد
بأقل كلفة ممكنة. تم عقد القران وارتبط جواد بوفاء.
كانت السعادة تغمره في كل لحظة يعيشها من فترة الخطبة التي استغرقت أقل من عام، وكان خلالها يقرأ تباشير السعادة في عيني خطيبته، فقد كانا يمضيان وقتا لا بأس به مع بعضهما، وكانت كل يوم تكبر بعينيه أكثر من ذي قبل، فكيف لا؟ وخطيبته تتفهمه, وتقدر وضعه المادي وتفكر معه في تخطي كل عقبة ممكنه، مما كان يخفف كثيرا من قساوة الحياة، ويريح نفسه الحائرة ويقلل من ديمومة التفكير المستمر بطريقة يتدبر فيها تكاليف الزواج.
وعندما اقترب موعد الزواج اشتركا معا في بناء عش الزوجية، فقد كانت ترافقه في شراء مستلزمات المنزل الجديد وهما يتطلعان إلى غد مليء بالفرح والسعادة ويبنيان آمالا عراض، ووجد نفسه أمام ملاك بصورة بشر، خطيبة رضيت بالقليل وأعلمت خطيبها أنها ستجعل راتبها لسداد ما سيترتب عليهما من ديون وراتبه لتدبر مصاريف الحياة، وزادت بأن أخبرته أنها بعد الزواج مباشرة ستبيع ما سيشتريه لها من ذهب لتساعده في سداد ديونه.
كما كانت الخطبة ، قبلت الخطيبة بالقليل من الذهب, وذهبت إلى أبعد من ذلك بطلبها أن تكون حفلة الزواج بأقل كلفة ممكنة وأن تكون متواضعة قائلة \"لا نريد أن تتراكم علينا الديون وتقلل من شعورنا بالسعادة\", كانت هذه الكلمات بردا وسلاما على قلب جواد وتزيده تصميما على أن يكون عرسهما كغيره من الأعراس.
وكما يشاع بين الناس أن أمور الزواج والعمار ميسرة وسهله، فعلا كان أمر زواج جواد ووفاء ميسرا, وسارت الأمور بخطوات مدروسة وواثقة قادت إلى الهدف فتحققت السعادة للعروسين ولذويهما ولكل من يعرفهما, وطارا فرحا إلى عشهما- إلى منزلهما الجديد- ، شقة صغيرة كانا قد استأجراها معا.
لم يعاندهما القدر، فامتلأت مساحات المنزل بلحظات الفرح, وباتت كل بقعة فيه تحكي جزءا من قصة حب عميقة وقوية تنبعث منها رائحة السعادة. وبدءا باستقبال المهنئين. ومثلما استجاب القدر لأمنيات الفرح أوفت وفاء بوعدها، وقبل انتهاء شهر العسل وبينما هما على مأدبة الإفطار قالت وفاء لجواد \" يا حبيبي خذ ما لدي من ذهب وبعه وسدد بثمنه ما عليك من ديون. وبين تردده وإلحاح زوجته وافق على بيع ما لديها من ذهب ولسان حاله يقول\" أقسم بالله أني سأعمل على تعويضك أكثر مما قدمت لي \"ونفسه تقول \"هكذا هن النساء اللاتي يعرفن درب السعادة, فقد يعجز مال الدنيا عن استجلاب لحظة من لحظات السعادة، وقد يشعر بالسعادة من يقتات على كسرة خبز\" .هذا النبل في السلوك، وهذا النقاء وهذا الوفاء زادت جوادا تعلقا بزوجته وزادت من إصراره على إسعادها.