كتب الدكتور سمير محمد أيوب - بين الشركاء في المواطنة ، قضايا أساسيةٌ وأخرى فرعية . تستدعي التبصر بشكل مستدام . بعض ما يجري في ظلال الوطن من ممارسات ، وما يجري من إرتدادات عليها ، تثير التوجع والقلق . وسوف تظل كذلك ، ما لم يتمالك كلُّ أطرافها ، أعصابَهم وإراداتهم . أقلُّ مِنْ ذلك ، جدلٌ عقيمٌ يُداري وقائعَ ولا يُداوي عِلَل . فالتوهم أو الظن ، بِأنَّ هناك مَواطِنٌ ، تَنامُ في المساء عامرةً ، وتستيقط في الصباح ، فإذا بها مازومةً مهمومة ، تبسيطٌ مُخِلٌّ مُمِلٌّ للأمور .
لإحداث تغييرات إيجابية سَلِسَة ، تتحرك بخطى واثقة ، نحو مستقبلٍ أفضل لكل المواطنين ، هناك مسؤولية كبيرة ، تقع على عاتق كلِّ قادرٍعلى التدبر في الأردن . للمشاركة في جهد جمعي مخلص ، كاشفٍ للواقع ، وللمُمْسِكين بمفاتيح أبوابه ، وتفسير وقائعه . وفي حكمة ، رسمَ برامج التغيير المرتجاة ، وقواه وآلياته ومواقيته . وليس أشد إثارة للمَللِ والضباب ، في هكذا محاولات ، من هؤلاء الذين ينسبون جُلَّ المشاكل إلى مؤامرات الآخر وأوهام العصمة وأبالسة التآمر . وهنا يصعب تبرئة أحد من ذلك .
أجد قبل الإستطراد ، مُناسبا التذكير:
أولا - بأن الأوطان لا تقوم وفق مزاج أحد . ولا تتعزز ، إلا وفق ضرورات وإحتياجات ومطالب ووسائل ، تتسع لأحلام ولأوهام مواطنيه .
ثانيا - يتوزع أبناء كل وطن ، على منظومات قوى متشابكة ، لها أفهامٌ وقيم وتوقعات ، تختلط في كل معارج الوطن ، بالمصالح الشخصية . تتربص ببعضها علنا وسرا ، وترتطم ببعضها إقتناعا وقسرا ، في سباقات الأجندة الفئوية ، بسرعاتٍ وحِدَّةٍ ، تضبطها توقعات العقل وتهويمات الوهم .
ثالثا - أن مشاريع الدول ، لا جغرافيا المَواطِنْ ، ومنها الأردن بالتأكيد ، لا تنشأ ولا تكبر ولا تقوى ، بتلقائية عفوية . وإنما بجهود قصدية كبيرة . تتولى ركوب الصعاب . ويتم إجتيازها ، بتراكم التصميم والهندسة وبناء القدرة ، وتوجيه حركة الرايات الفرعية . ويتم بين وقت وآخر ، إعادة صياغة مضامين تلك الرايات ، وفقا للجديد من الضرورات ، وخلافا لسفاهات وشهوات الوهم ، حتى وإن نطق شاكيا باكيا .
رابعا - تعزيز الإتساق بين كل المواطنين ، ليس ترفا ، بل ضرورة ، في ظل المخاطر المصيرية ، ألتي باتت على تماس مع التركيبة السكانية ، وجغرافيا الوطن في الأردن .
يتأكد من راهن الوقائع كل يوم ، أن بعض الشذوذ أو الإستثناءات ما عادت تتوافق مع حقوق وواجبات المواطنة المعاصرة . ولا مع ما تحتاجه من فكر ومؤسسات تؤطّر حركتها وترشد عملها. ويقود وسائلها في التجسيد . وهنا تتّضح المسؤوليّة المشتركة . فلا أحد مَعفيّ ، ولا أحد بَراء ، من مسؤوليّة ما يجري في الواقع ، وما قد يجري في المستقبل . ألكل هنا مسؤول .
كانت أوراق الملك النقاشية السبع ، نقلة محورية على طريق بناء دولة عصرية . ولكن لأسباب كغيري أجهلها ، لم تنل حقها من العناية المعمقة ، بل بقيت تتقدم خطوة هُنا ، وتتراجع خطوات هناك . مما أبقاها حائرةً بين إقْدامٍ شكلي وإحجامٍ فِعلي . حتى قرر السيد فيصل الفايز ، أن يأخذ في يده بزمام المبادرة . فأمسك بذكاء ملحوظ ، في الوقت المواتي ، ببعض مضامين تلك الأوراق الملكية . وفي مقابلتة الأشهر، مع قناة روسيا اليوم ، قرع جرسا من أجراس تلك الأوراق ، مسلِّطا عليها كواشفَ الضوء .
دون الدخول في التفاصيل المتشعبة ، فيما ورد في الأوراق من أفكار ، وفيما كشف الفايز منها ، فقد جاءت دعوات الملك في خطاب العرش في البرلمان منذ أيام قليلة ، تطورا بالغا في تعزيز الأهمية والحساسية ، لما سبق وأن جاء في تلك الأوراق ، ولِما تحدث عنه الفايز .
في البداية ، كانت تلك الأوراق بوابة للتدبر العام ، ما لبث الفايز وهو متحسبٌ لجنوحِ مشاعر البعض وقلقه ، أن أخذ عبر حديثه الجسورعنها ، زمام المبادرة في تقريبها ، إلى بؤرالتاثير والضغط العلني ، وأدخلها عبرأوسع العتبات ، مقتحما بها خرائط الحوار الوطني المحتدم ، والذي يعاد تشكيله ، بعيدا عن جنوح مدافع الردح وطبول التسحيج .
الأرتطامات والصراعات الداخلية الحالية ، في ركن أساس من أركانها ، صراعات أفكار لقوى ولمصالح على المستقبل . الإرتطام في ظلالها ، أخطر من أن يُترك لعوائق عصبية ، أو نزق شتاَّم ، أو فورات شكَّاكٍ غاضب ، يكيل تهم الكَيْفَماكان . كلُّ الإرتطامات ، مهما بلغت كفاءة راعيها أو ضجيج قوَّته ، هي في طبائعها ومحصلة قِواها ، عوائقَ عاجزة ، لا تُحسنُ ولا تَقدِر على بناء البدائل . بل تُمعنُ في قطع الأنفاس وفي تضييع الفرص .
تكمن المشكلة المعاصرة لفيصل الفايز ، إبن القبيلة غير المحجوب عن عشائريته ، في أنّه مركز تقاطع لكثير من المشاعر الإيجابية ، والأهداف الجمعية ، والأحلام الوطنية ، والتحركات الشعبية . سواقي فكرية خصبة ، وينابيع متدفقة لعناصر القوة المعنوية والمادية ، تصب كلها في أطره ، على أسس وطنية ، لا على أسس فئوية ضيقة .
لكن لسوء حظ الفايز ، فإن الكثير من التحشيد غير البرئ ، أدّى بالتسحيج الجاهلي المعاصر ، والطخ العشوائي ، إلى إختناقات في فهم ما قال ، وإلى الإساءة لِما قيل . وهنا تكمن معضلةٌ كل محاولة مخلصة ، للتحرك خارج الصناديق السّود ، والدوائر المغلقة . حتى لو كانت قاطرة التحرك ، بقيادة قامة وطنية وعشائرية ورسمية ، بوضوح وحجم وفعالية ، فيصل الفايز .
ولكن ، رغم حجم الضجيج ومضامينه ، هناك وميض أمل للعاملين بمنهجية واضحة ، من أجل إستمرار العمل المتراكم ، لتغيير سلمي إيجابي ، في كل الإتجاهات ، إذ لا يجوز التقاعس أمام الإحتمالات الأسوأ للتغيير ، ولا يجوز الرضى بأن تُسرق الإنجازات ولا التضحيات من أجله . لأنَّ المراوحة ، هي عتبة التراجع والتلاشي . ويخطئ من يعتقد أنَّ الواقع السّيئ ، هو حالة أبدية غير قابلة للتغيير. لكنَّ التغيير المنشود ، لن يحدث تلقائيّاً ، لمجرّد الحاجة أو الرغبة أو التمني . بل بفعل تراكمات مقصودة متلاحقة ، كمّاً ونوعاً وفي كل إتجاه .
ما قاله فيصل الفايز ، صحيحٌ ومُحِقٌ . فرصةٌ هامّة ، ومسؤوليّةٌ واجبة ، على القوى الحية في الوطن ، أن تُمسك باللجام ، وأن تمضي لبناء مستقبلٍ جديد ، أرحب وأفضل ، بعيدا عن التشظيات الفئوية والمحاصصات المناطقية . فلعلّ في ما تؤكد عليه الأوراق والاحاديث الملكية ، وما يقول به فيصل الفايز ، عن المنطلقات والغايات والأساليب ، يكون المدخل ألأيجابي الفعال ، لبناء وطن يصمد بسواعد كل أبناءه .
الاردن – 15/10/2018