زاد الاردن الاخباري -
د. مهند مبيضين- غيب الموت ظهر اليوم المناضل الأردني محمد باجس المجالي الذي يعد واحد من ابرز رجالات الاردن وشخصية وطنية كبيرة كان لها دور مؤثر في التصدي لمحاولات الهيمنة الاجنبية وحماية ثروات الوطن من النهب والفساد.
عاصر محمد باجس المجالي كلوب باشا "أبو حنيك"، وخاض معه مواقف وطنية، غير أن مواقفه تلك لم تنته برحيل كلوب، بل استمرت مع حكومات عطلت الشرعية، وعملت على حرمان الإنسان الأردني من موارد بلده: الفوسفات والصخر الزيتي. مواقفه تلك جعلته يدفع ثمنا باهظا من استقراره وأمنه. يقول "تعرضت لإحدى عشرة محاولة قتل".
ولد محمد باجس المجالي، الملقب بـ"سعد زغلول الأردن" في العام 1926 في قصبة الكرك.
ولعل لقبه ذاك استحقه لدوره الوطني المنافح ضد الاستعمار ووعد بلفور والفساد، ولوطنية معتقة بروح عروبية حقيقية، فهو يعيش حالة إيمانية، يرى أنها السبب الذي يدفعه "لمواجهة كل أعوان الفساد".
يستعرض في ذاكرته صولات وجولات مع كلوب باشا، وهو حين يتحدث عنه يقول "أعرفه كلص منذ كنت مديرا لديوان المحاسبة". الديوان كان مرتبطا بالبرلمان، ويبدو أن "كلوب ربطه بالسلطة التنفيذية كي يعطله"، وبعدها حاول استمالته: "أكرمني بالنيابة، لكنني رفضت.
يومها كان كلوب يحضر بطاقات الأموات ويجعلها تصوّت". وهو يرى أن "فرمان الصوت الواحد" الحديث أنهى مكتسبات هبة نيسان العام 1989 التي "أعادت الحياة النيابية بالقائمة النسبية وجاءت بنواب محترمين".
والده كان يعمل تاجرا متنقلا بين الكرك والقدس ودمشق، إلى جانب كونه أحد وجهاء وشيوخ عائلة المجالي. بداية العلم تلقاها في كتاب الكرك لفترة بسيطة "كان شيخ الكتّاب مغربي الأصل، ولم ارتح له، فسحبني أبي من الكتّاب".
بعدها التحق بمدرسة تجهيز الكرك، وأتم الدراسة فيها لأعلى صف وهو الصف الثامن "كنت الأول، وتقرر إرسالي في بعثة إلى طولكرم أيام مدير المعارف سمير الرفاعي، إلا أن أبي رفض أن أدرس التخصص الزراعي، وأراد أن ادرس الطب أو الهندسة". في الكرك درس معه نخبة من أبناء جيله، يتذكر منهم محمد نهار الرفاعي وإسماعيل النابلسي ونبيه ارشيدات وبهجت التلهوني وحابس المجالي، وما أن تسأله عنهم حتى تغرورق عيناه بالدموع، ويقول "راحوا كلهم وبقيت أنا".
من الكرك انتقل إلى مدرسة السلط، وهناك وجد غايته، فأجواء السلط كانت مسيسة، "وأنا مصاب بثقالة الدم الوطنية". هناك دخل المجالي الحراك الوطني لما ترشح عبد الحليم النمر الحمود أحد ابرز قيادات الحركة الوطنية للانتخابات، ولكثرة انشغاله بالسياسة "سقط" المجالي في المدرسة العام 1940.
السياسة حالت دون إتمامه العلم، ليعمل بعد مدرسة السلط في عدة دوائر، إلا أن بعضها كان يستمر فيها لأيام فقط "مرات كنت أعين يوما واطرد في اليوم الذي يليه" والسسب برأيه لأنني "حامل السلم بالعرض".
عمل أبو باجس في دائرة الأراضي والمساحة، كان المدير انكليزيا واسمه ويل بول "بلشت فيه فطردني". بعدها عمل في وزارة المالية "عيني عبدالحليم النمر لما صار وزيرا للمالية"، ثم عمل في بلدية عمان عندما كان هزاع باشا المجالي رئيسا لها، كما شغل منصب مدير عام مصلحة البريد، إلا أنه لم يثبت في مكان إلا في ديوان المحاسبة "عينني الملك طلال رحمه الله، ووافقت الوظيفة ميولي بتعقب الحرامية".
موقفه من كلوب باشا والانجليز كان واضحا، فالفتى الذي تشرّب الحس الوطني من حسين باشا الطراونة، وعاصر حركة سلطان باشا الأطرش، كان مشروع ثائر، فما كان من كلوب إلا أن حاول استمالته، لكنه أبى ذلك، "ووفاء للملك طلال التزمت بمحاربة الفساد، ونشرت الكثير من وقائع الفساد..".
لا يدعي أن والده أحدث أثرا كبيرا في وعيه "كان أبي مهتما بالأمور الوطنية العامة، لكن الذي ثقفني بها الراحل حسين الطراونة. تأثرت به كثيرا فهو من قدمني لأودع سلطان الأطرش".
يرى أبو باجس أنه كان من اقرب الناس إلى الملك طلال وصديقه الشاعر.
يقول "عرار (مصطفى وهبي التل) وأنا كنا نلتقي عند جمال قعوار في عمان"، في حين كانت المعرفة بدأت في السلط،التقاه عندما كان طالبا وعرار متصرفا. يقول "ذات مرة بعث عبدالحليم النمر برقية سب فيها رئيس الحكومة توفيق أبو الهدى، الذي أمر المتصرف (عرار) بحبس النمر، وعندما رفض عرار الأمر، أتبعه أبو الهدى بأمر آخر يقضي بحبس المتصرف، فكنا أنا وعرار والنمر في السجن".
استمرت علاقته بعرار حتى يوم وفاته في المستشفى العيني "كنت الوحيد عنده مع د. مصطفى خليفة طبيب المستشفى، وفجأة دخل علينا صاحب الحانة، ولما سمع بمرض عرار صار يصيح، فقالوا له الموت حق. فقال أنا ما عندي مشكلة بس لي عليه دين سبع ليرات، فأخرجت من جيبي ثلاث ليرات أعطيتها له".
آراء المجالي تبدو صادمة في كثير من القضايا الوطنية والأحداث السياسية، فعبدالناصر هو "النموذج الذي حرر مصر من زمن الهكسوس وحتى الانجليز"، أما تفجيرات عمان فهي "حسب مصادر إسرائيلية موثقة لديه، كانت مبيتة لزعزعة استقرار الأردن وتقدمه".
موقفه من محاربة الفساد جر عليه الكثير من المخاطر: "مسكت مسؤولين كبيرين في السلطة التشريعية وهما يسرقان"، لذا تم تعقبه بإحدى عشرة محاولة قتل موثقة، وتم نسف بيته مرتين "من قبل نافذين، وهذا آذاني كثيرا، وتعالجت في ألمانيا على نفقتي الخاصة".
وهو يرى أن "هناك من يعملون على تدمير قوة البلد وإفشاء الفساد وتقويض الزراعة"، ويتساءل "لماذا لا تحصل انتخابات حقيقية في دولة شعبها مثقف، ومنذ أكثر من ثمانين عاما كان لديه ميثاق وطني"؟.
يتذكر في شبابه المفعم بالروح الوطنية كيف أن الكرك استقبلت سلطان باشا الأطرش الثائر يومها ضد فرنسا، وحين أفرج عنه وقرر العودة، انتدبه حسين باشا الطراونة لإلقاء كلمة وداعية باسم الكرك وباسم حسين الطراونة، فكانت قصيدة جاء فيها: وثبت على سنام التنك وثبا ذريعاً علم الأسدُ الوثوبا
وكهربت البطاح بحد سيفٍ بهرت به العدا فهووا وقوعا كأنك قائد منهم جبالا تبعن إلى الوغى جبلا منيعا ولا يبدو المجالي نادما على خياره الوطني الذي ميزه عن كثير سواه، فما يحرص عليه هو "يقظة الضمير، واحترام كل ما هو إنساني وفطري"، وهو غير نادم على خياره الرافض للهيمنة والبيع بالمجان، ويضع موقفه هذا في صلب إيمانه الديني حين يقول "من اجل الوطن اعتبر موقفي في سبيل الله، لأن الله هو صاحب العلاقة وما عداه كذب، فالحقيقة الوحيدة هي الله، فهو من انتخب الأردن من دون الدنيا ضريحا لطلائع شهداء الإسلام".
حالته الإيمانية الشديدة الانقياد للأقدار نابعة من يقينه بأن الخير والشر بيد الله لا يمسان المرء بشيء إلا بإذنه "ولائي لله لأنه خلصني من إحدى عشرة محاولة قتل، وكيف لا أومن به وأنا متأكد أنه مهما عملت الصهيونية بالأردن فهو بخير لأنه محمي من صاحب العلاقة؛ الله الذي حفظ القرآن".
ذاكرة المجالي تفصل في الكثير من الوقائع والأحداث التي باتت اليوم عرضة للتناول في أكثر من شكل "أنا من قدمت بعض الضباط الأحرار للعمل في سلطة المصادر الطبيعية.
كانوا سبعة وعشرين ضابطا، وكان منهم نذير رشيد ومحمود المعايطة". ويروي كيف أن نذير رشيد عندما صار مديرا للمخابرات جاءه يقول "أنت محظوظ، الملك حسين يحترمك، وأنا (شكيتك) عنده، فقال اتركه، هذا وطني نظيف".
وهو يتذكر كذلك، كيف أن "نذير باشا، وإكراما لي، أفرد شرطيا أمام بيتي لما صار وزيرا للداخلية، وبادلني الاحترام أكثر من اللازم". في أواخر الخمسينيات سجن مع منيف الرزاز في سجن الجفر، و"منيف عمل المستحيل لضمي للبعث، لكنني لم اقبل". وتلقى المجالي كذلك عرضا للانتساب إلى الشيوعيين "عرضوا علي موقعا متقدما من قبل نبيه ارشيدات (أبو الشيوعية)، لكنني رفضت أيضا".
تزوج محمد باجس في عام لا يذكره من الراحلة عايشه المجالي، وأنجب منها بنتين؛ الكبيرة إيمان وهي جامعية، وأنوار هي أستاذة جامعية تدرس في كلية عمان في جبل الحسين التابعة لجامعة البلقاء التطبيقية، ويقول عنها "هي أخوي ودكتوري ويدي ورجلي وحياتي، لولاها زمان انتهيت".
الغد