زاد الاردن الاخباري -
قال سمو الأمير الحسن بن طلال أنه لا يوجد دين على وجه الأرض يدعو للقتل العمد بغض النظر عن المسببات؛ مشدداً على أن ركيزة ديننا إيماننا الذي يكمن في الخلاص والبراءة والرحمة وليس في الحقد والتعبئة والتجييش الأعمى ومعاقبة الناس.
وأضاف سموه خلال محاضرة له بعنوان "المسيحية والهوية المشرقية العربية" في النادي الأرثوذكسي بعمّان، أمس الأحد (2 كانون الثاني 2011)، أن جزءاً من التحدي الذي يواجهه المؤمنون، من المسيحيين والمسلمين، في مجتمعاتنا هو إيجاد توازن أو وسيلة عملية في تفاعلنا المشترك وكذلك المنفصل مع العالم العلماني، من أجل تحديد أرضية أخلاقية ومعنوية مشتركة في "القانون الطبيعي" للبشرية مما يشكل السلوك القويم والسلوك المعادي؛ أي الحقائق الأبدية.
وقال سموه إن العالم العربي يمرّ بأزمات خانقة مردّها المال والجشع والسلطة والاستكبار والسيطرة؛ حيث تتكاثف عليه تحديات مرحلة الانتقال من حال إلى حال داخلياً، وتحديات العصر بأشكالها السياسية والاقتصادية والأمنية. وإذا ما كان هناك من ردود فعل عنيفة أحياناً فلا شك في أن مردها يعود إلى حال الغربة والضياع والبحث عن الذات.
وشدد سموه، بحضور سمو الأميرة سمية بنت الحسن رئيس مدينة الحسن العلمية والجمعية العلمية الملكية، وعدد كبير من ممثلي الطوائف المسيحية ورجال الدين الإسلامي والخبراء والمختصين والشخصيات العامة، إن العرب المسيحيين ليسوا إلا رواداً في الحفاظ على اللغة والهوية العربية، وهم من أهل البلاد وقبائلها الأصلية والأصيلة. والديانة المسيحية كانت إحدى أهم الديانات العربية قبل ظهور الإسلام؛ ففي بلاد الشام كان المسيحيون هم الغساسنة، وفي العراق كانوا المناذرة، وهم أحفاد بكر وتغلب وكلب وربيعة ومضر وتنوخ، وهي قبائل كانت أغلبيتها مسيحية، وهم الذين استقبلوا ألوية الفتح الإسلامي في العراق وبلاد الشام.
وأشاد الأمير الحسن بسينودس أساقفة الشرق الأوسط الذي انعقد مؤخراً والذي أصدر بياناً جاء فيه أن "إبراهيم أبا الآباء، وأبانا جميعاً في الإيمان، اليهود والمسيحيين والمسلمين... لقد آن الأوان لنلتزم معاً صنع سلام صادق وعادل ونهائي.... فلا يجوز اللجوء إلى مواقف بيبلية لاهوتية لجعلها أداة تبرر الظلم، بخلاف ذلك إن اللجوء إلى الدين يجب أن يحملنا على رؤية وجه الله في كل إنسان...".
وقال سموه "اكتشفت مبكراً، من خلال حياتي الخاصة وتجربتي مع والدتي وعائلتي وقراءاتي، أن لا سبيل لحل جميع القضايا الفكرية والسياسية والدينية والاجتماعية إلاّ من خلال الحوار والاحتكام إلى العقل في أمور الدنيا. وأتأمل أحياناً في بعد نظر الجد الأكبر الحسين بن علي، رمز النهضة العربية، حين أصدر رسالةً إلى أبنائه ليطالبهم باحترام طائفة اليعاقبة الأرمن ومعاملتهم كمعاملة الأهل".
وأضاف سموه "وأمعنُ التفكير كذلك في جدي عبد الله الأول الذي سار على نهج والده بالدعوة إلى الانفتاح السياسي والاجتماعي، وعمل على تطبيق الفكر بالعمل حيث أرسى معالم الدولة الأردنية الحديثة على أسس احترام الرأي والرأي الآخر والاعتدال والوسطية في المعتقد، واحترام الأديان الأخرى وإفساح المجال لها لتأخذ نصيبها في الحياة السياسية والاجتماعية".
وأكّد الأمير الحسن أن الثقة بالنفس المستندة إلى شرعية المرجع إلى الأمة العربية المنتمية إلى الحضارة الإسلامية العظيمة هي التي أفسحت لحظات عظمتها وسؤددها لجميع رعاياها بالعيش المشترك والحياة الكريمة. ومثل هذه الثقة كانت خلف إصرار الملك المؤسس على ضرورة احتكام الدولة إلى دستور مدوّن يفسح المجال للمؤسسات التنفيذية والتشريعية والقضائية أن تنمو وتعمل ضمن حدوده. ولكن كان لدولة الانتداب رأي آخر، وهكذا جاء القانون الأساسي لعام 1928، والذي لم يتم استبداله بدستور إلاّ عام 1946؛ مضيفاً أن الفترة ما بين عامي 1946 و1952 كانت "من أقسى وأصعب اللحظات التي مرت على الأردن، فقد شهدت اغتصاب فلسطين وقيام دولة إسرائيل وما تلى ذلك من تهجير قسري للفلسطينيين".
وقال سموه أنه "رغم كل الصعاب والعقبات استمر الأردن في السير نحو المزيد من الانفتاح والدمقرطة. وجاء دستور عام 1952 في عهد المغفور له الوالد الملك طلال ابن الحسين، وهو الدستور مع تعديلاته المعمول به إلى اليوم، قمة التطور الدستوري الأردني، إذ حرص كل الحرص على إشراك جميع مكونات الشعب الأردني. وقد أبدت القيادة الأردنية بعد نظر في تخوفها من طغيان الأغلبية وتهميش فئة محددة في المجتمع حين اعتمدت تخصيص مقاعد معينة لها في مجلس الأمة والوزارة".
وأكّد سموه على ضرورة تفعيل وثيقة "قواعد السلوك والأبعاد الدينية لحوار أتباع الديانات" التي تتمحور حول أهمية التوافق بين المعتقدات الدينية والجوانب العملية، والبدء بالقواسم المشتركة، والأخذ بعين الاعتبار تأثير حركة اليقظة الفكرية الأوروبية ويقظة الإشراق المشرقية، والأخذ بمبدأ عدم الإكراه، وإقرار حق الفرد في إعلان دينه، وإعادة النظر في محتوى التربية والتعليم، وضمان الانسياب الحر للمعلومات، ووضع أطر مناسبة لتفهم الاختلافات في الرأي، وقبول الاضطلاع بمسؤوليّة الأقوال والأفعال على كلّ الصعد، والإقرار بالأبعاد السياسيّة والاقتصاديّة للحوار بين أتباع الديانات؛ وهذا لا يعني أن نسيّس الدين أو نشتري الدين.
وختم سموه بالقول إننا كأمة عربية نصبو إلى الاستقلال الحقيقي من الخوف والعوز والتبعية، ونرجو المعذرة من الخالق لما قمنا به كبشر في هذه المرحلة السوداء من حياتنا كعرب أو كأبناء إبراهيم من ثقافة عربية... مرحلة الكراهية والضدية، فنحن لسنا ألعوبة في لعبة الأمم إلا إذا قبلنا ذلك.
وفي سياق متصل، أرسل سمو الأمير الحسن أول أمس رسالتي تعزية بضحايا التفجير الإرهابي الذي وقع أمام كنيسة القديسين بالإسكندرية إلى الرئيس المصري محمد حسني مبارك والبابا شنودة الثالث.
وقال سموه في الرسالتين "إن المستهدف من هذا العمل الجبان وغيره ليست الكنيسة ولا المسجد، ولا المسيحيين ولا المسلمين، وإنما المستهدف هي هويتنا العربية المشرقية بامتدادها التاريخي الساطع الذي كان وسيظل مثالاً عظيماً على تماسك هذه الأمة، وعلى وحدتها في تنوّعها. لقد أثبت تاريخنا العربي أن وحدتنا وقوتنا في تنوّعنا. أما من يفكّر بغير ذلك فهو كافرٌ بأمته، كافرٌ بتاريخها وكافرٌ بمستقبلها".
وأضاف سموه "وحدهم الجبناء وأصحاب النفوس المريضة والخائفون من تماسك النسيج العربي الواحد، بمسيحييه ومسلميه، يسعون إلى تفكيكه بشتى الوسائل. لذا فإننا، وقد تكالبت علينا هذه النفوس القبيحة، بحاجة إلى تقوية هذا النسيج وتعزيز مختلف أطرافه من خلال وضع مدونة سلوك إقليمية خاصة بالأمن والاقتصاد والتنمية البشرية، من أجل صياغة المبادئ الرئيسية للمسؤولية والشفافية والمصلحة المشتركة وبناء هوية دفاع جماعية".