زاد الاردن الاخباري -
عندما طلبت معلمة الرياضيات عايدة، من إحدى طالبات التوجيهي الأدبي، كتابة عبارة "هي قيمة عظمى" على اللوح، لم تتفاجأ كثيرا من كتابة الطالبة "هية قيمة عظمة"!
بالنسبة لعايدة فإن أمرا كهذا لم يعد يثير صدمتها، فمن بين الـ43 طالبة في الصف هناك عدد كبير يعاني ضعفا كبيرا في المهارات الأساسية للقراءة والكتابة، إضافة إلى الضعف الكبير في العمليات الحسابية الأساسية، وهو أمر ينطبق على الصفوف الأربعة الأخرى التي تدرسها.
أما لدى معلم المحاسبة جمال، فهناك ثلاثة من أصل 23 طالباً، نجحوا في اختبار المستوى، الذي عقده للصف الأول ثانوي إدارة معلوماتية، بداية العام الدراسي. عدد كبير ممن رسبوا لا يتقنون- كما يقول- الكتابة بشكل صحيح.
من بين 45 طالبة في كل شعبة من صفوف الثامن والتاسع، التي تدرسها معلمة التربية الإسلامية سناء، هناك أقل من عشر طالبات يتقنّ الكتابة والقراءة بشكل ممتاز، البقية يكتبن بأخطاء إملائية ولغوية فادحة، وهناك طالبة على الأقل في كل صف، تسلّم أوراق الامتحانات وقد كتبت بخطوط متعرجة، ليس فيها حرف أبجدي واحد.
في صف التوجيهي الأدبي لا يمكن لماهر، معلم اللغة العربية، تكليف أكثر من ستة أو سبعة طلاب من أصل 45، بقراءة نصوص النثر والشعر تمهيداً لشرحها، لأنه إن فعل، فإن الحصة ستنقضي في تصحيح أخطاء القراءة!
من يقرع جدار الخزان!
ما سبق كان شهادات لمعلمين ومعلمات التقتهم "الغد"، في إطار تحقيق يبحث ما يُجمعُ قطاعٌ عريضٌ من المعلمين والخبراء التربويين والمراقبين على أنه "تردٍ غير مسبوق" لمستوى الطلبة التعليمي.
المفارقة هي أن الخطاب السائد، يعترف بتردي مستوى الطلاب، فقط، عند الحديث عن المدارس في المناطق النائية في البادية والأغوار والجنوب، وتساق أسباب كالفقر وعدم استقرار المعلمين، لتبرير ذلك، إلا أن بعض المدارس السابقة يقع في قلب مدن، ولا تعاني مشكلة في استقرار الهيئات التدريسية. ومع ذلك فثمة شكوى مريرة من تردي مستوى التلاميذ في هذه المدارس، وفي مدارس أخرى تحدثت "الغد" مع معلمين ومعلمات منها، (وتعهّدت لهم جميعاً بعدم الكشف عن أسمائهم أو مديريات التربية التي يتبعون إليها، لحساسية أوضاعهم، وخشية من مساءلتهم إداريا!). ولا تقتصر الشكوى على تدني التحصيل العلمي للطلبة، بل تمتد إلى "ضعف خطير" لدى قطاعات واسعة من الطلبة في مهارات القراءة والكتابة والحساب الأساسية، وهو ما يقول معلمون إنه يشكّل عائقاً أمام التحصيل الدراسي لهؤلاء الطلاب.
مسح عشوائي يكشف الكثير!
ويكشف مسح عشوائي نفذته معدة التحقيق بالتعاون مع مدرسين ومدرسات في عدد من المدارس في محافظات بالشمال والجنوب والوسط، عن "واقع صادم" لدى غالبية الطلبة فيما يتعلق بمهاراتهم اللغوية والإملائية!
المسح العشوائي شمل عينة من 449 طالباً وطالبة، من الصفين التاسع والعاشر، كلف فيه الطلاب بكتابة نص من 100 كلمة، مقتبس من كتاب اللغة العربية للصف التاسع، حيث قامت معدة التحقيق بتصحيح الأوراق.
اعتُمد منهج تصحيح متساهل، حيث تمّ التجاوز عن أخطاء مثل حذف همزة القطع، وحذف نقاط التاء المربوطة، وإضافة سن إلى الياء في آخر الكلمة وغيرها من أخطاء (بسيطة).
وتمّ الاكتفاء برصد الأخطاء الإملائية الفادحة مثل حذف أو إضافة أحرف إلى الكلمة، كتابة التنوين بالنون، تحويل التاء المربوطة إلى مفتوحة والعكس، تحويل السين إلى صاد، والظاء إلى ضاد، كتابة حرف مدّ بدلا من الحركة، وغيرها.
النتائج كانت صادمة، فقد تمكن أربعة طلاب فقط، وبنسبة أقل من 1 % من كتابة النص دون أخطاء إملائية فادحة، فيما كتب 11 طالباً، وبنسبة 2.4 %، خطوطاً متعرجة، ما يعني أنهم أميون.
بين الفئتين، كان هناك 138 طالباً (30.7 %) ارتكبوا بين خطأ وخمسة، و110 طلاب، (24,4 %) ارتكبوا ما بين 6 و10 أخطاء. فيما وقع بقية أفراد العينة فيما بين 11 و70 خطأ.
أُمّي في الصف العاشر!
يحمّل معلمون أنظمة النجاح والرسوب المطبقة في المدارس المسؤولية.
ووفق القانون، يُمنع رسوب أي طالب أكثر من ثلاث مرات خلال سنوات دراسته من الأول إلى العاشر، ويمنع إعادته لذات الصف أكثر من مرة.
يقول معلمون إن الطلاب، الذين استنفدوا عدد مرات الرسوب وأولئك الذين يعيدون صفوفهم، يصبحون "بأمان"، ويعرفون أنه ليس مطلوباً منهم العمل على تحسين أدائهم، بل وتقديم أوراق امتحانات خالية.
كذلك، حدد القانون نسباً للرسوب يمنع تجاوزها مهما بلغت نسبة الضعف لدى الطلبة، حيث لا يسمح بترسيب أكثر من 5 % من طلبة الصفوف الثلاثة الأولى، 10 % للصفوف من الرابع إلى السادس، 15 % للسابع إلى العاشر، و15 % للمرحلة الثانوية.
ويتحدث معلمون عن عمليات "تنجيح" جماعية تطاول أعدادا كبيرة لا تستحق النجاح.
يقول المدرس جمال إن إلزام المعلمين بنسبة رسوب يضعهم في حيرة، ويتساءل "على أي أساس يمكن للمعلم أن يختار خمسة أو ستة طلاب للرسوب، إذا كان هناك في الصف 15 في نفس المستوى؟!".
لهذا، يشير إلى ظاهرة، يقول إنها تمارس على نطاق واسع في المدارس، وهي "تنجيح" الجميع، درءا للظلم، واستناداً إلى قاعدة "الحلال والحرام".
أمر كهذا تسبب، كما يقول ماهر الذي يعمل معلم لغة عربية منذ 15 عاما، في خلق حالة من التسيّب لدى الطلاّب، "يعرفون أنهم ناجحون بجميع الأحوال، وبالتالي ليس هناك ما يجبرهم على الدراسة".
وزارة التربية: الرسوب مرفوض عالمياً
وفي حين يرى جمال أن تقييد أعداد الراسبين "مسألة تخضع لاعتبارات اقتصادية بحتة"، وهدفها تقليل فاتورة التعليم التي يرفع الراسبون من كلفتها، فإن وزارة التربية والتعليم تشدّد على أن الأمر "يخضع بالأساس لاعتبارات تربوية".
مدير إدارة الامتحانات والاختبارات الدولية في الوزارة د. فايز السعودي يشدد على أن الرسوب من ناحية تربوية، هو "مسألة باتت مرفوضة عالميا"، فما أثبته العلم هو أن هناك أنواعا مختلفة من الذكاء، يمتلك كل شخص بالضرورة واحداً أو أكثر منها، ومن هنا فإن "تقصير الطالب في المدرسة يعني أن المدرسة أخطأت في اختيار أساليب التعليم المناسبة لقدراته، لذلك المطلوب ليس ترسيبه بل تغيير الأساليب المتبعة في تعليمه".
الخبير التربوي حسني عايش يؤيد أن الرسوب يسبب للطالب "أذى نفسيا" يعيق تعلمه، فالرسوب "يشوّه صورة التلميذ لذاته، ويشعره أنه فاشل، كما يعمّق لديه مشاعر الألم، وهو يرى زملاءه يتقدمون عنه". كما يلفت إلى أن دراسات أثبتت أن الرسوب يزيد لاحقا فرص التسرب من المدرسة. وينتقد السعودي المطالبة باستخدام الرسوب كرادع، ويقول إن "العملية التربوية الحديثة تسعى لبناء شخصية طالب، ينضبط ويلتزم بالتعلم بناء على دافع داخلي، وليس خشية عقوبة المعلم".
أداء المعلم وتوفير بيئة جيدة للتعلّم، هو ما سيخلق، بحسب السعودي، الدافعية للتعليم، بغض النظر عن امتلاك سلطة العلامة.
يؤيد ذلك عدنان، الذي عمل 24 عاماً معلما للغة العربية ومديرا لمدرسة، يقول "ثمة معلمون استطاعوا لطبيعة شخصياتهم ونوعية أدائهم ضبط طلابهم وحفزهم على التعلم، رغم إدراك الطلاب أنهم سينجحون رغماً عن معلميهم". ويزيد "ثمة من يتّخذ من أسس الرسوب ذريعة لتبرير إهماله".
المشكلة ليست في الرسوب
عايش يرى أن لتطبيق الرسوب "ضررا مضاعفا"، ذلك أن "ما يحدث هو أن التلميذ يبقى في صفه، لتعاد عليه نفس المعلومات بنفس الأساليب، ولا ينال من الرسوب سوى الأذى النفسي، وهدر سنة من عمره".
إذا فإن الخطأ، برأي عايش، لا يكمن في ترفيع التلاميذ الضعاف تلقائيا، بل في عدم متابعتهم بعد ترفيعهم، يقول "كل طفل لا يعاني من إعاقة عقلية قادر على التعلم، إذا استخدمت الطرق الصحيحة. الخلل هو في أن هؤلاء لا يتم تشخيص نواحي الضعف لديهم، ولا يتم في الغالب تطبيق خطط لعلاجها".
وهو أمر تنفيه وزارة التربية، التي تؤكد اعتماد وتطبيق آليات لمعالجة الضعف في المدارس.
وفق مدير إدارة التعليم العام في الوزارة د. صالح الخلايلة، يُطالَََب المعلمون في بداية العام الدراسي بإجراء اختبار مستوى، لتشخيص نقاط الضعف لدى التلاميذ، والقيام بتصميم وتطبيق خطط لعلاجها. لكن معلمين كشفوا إلى "الغد"، أن ما يحدث في كثير من المدارس هو أن معلمين يخفون ضعف طلابهم، لأنه سيجلب لهم "وجع الرأس"، إذ سيكلفون بكتابة خطط علاجية، وإعطاء حصص تقوية إضافية، وغير ذلك.
وهو أمر يقول ماهر إنه غير مقبول، ويزيد: "معلم لديه عبء دراسي كامل، مع تربية صف، وأعمال كتابية، لن يكون لديه قدرة على أي جهد إضافي".
إخفاء ضعف الطلبة تجنبا للمساءلة
ويلجأ معلمون لإخفاء ضعف طلابهم، خشية من "الظلم"، الذي يقولون، إنهم سيتعرضون له من قبل إدارة المدرسة والمشرفين، الذين سيحملونهم مسؤولية هذا الضعف، رغم أنه تراكمي.
سلام، وهي معلمة كيمياء للصف التاسع، قامت بوضع العلامات الحقيقية للطالبات، ما نتج عنه ترسيب 22 من أصل 47 تلميذة نهاية الفصل الأول.
فعلت ذلك وهي تعرف، كما تقول، أنه ليس بمقدورها ترسيبهن نهاية العام، ولكنها اعتقدت أن رسوبهن بالفصل الأول سيحفزهن على بذل المزيد.
تشير سلام إلى أن ما فعلته جلب لها "انتقادات قاسية" من قبل إدارة المدرسة والمشرفين، وطلب منها أن تقوم بعلاج الضعف، وهو ما حاولته فعلا، ولكن من دون فائدة، "كيف أكون المسؤولة عن ضعف طالبات وصلن إلى التاسع وهن لا يعرفن أبسط الأساسيات في العلوم؟ وكيف يمكنني معالجة ضعف طالبات لا يستوعبن الكيمياء، لأنهن ضعيفات في اللغة العربية؟" كما تتساءل سلام.
تقول سلام "اضطررت في الفصل الثاني لزيادة علامات كثيرة لهؤلاء الراسبات كي ينجحن".
والمثير أن الإدارة والمشرفين، لم يتساءلوا عن "الزيادات الفلكية" في العلامات، ولم يسع أحد لمعرفة ما آل إليه حال هؤلاء الطالبات.
وتصف سناء الزيادة في العلامات بـ"المهزلة"، التي تتكرر كل عام في كثير من المدارس، تحت سمع ونظر الوزارة.
هذا الوضع "يشوّش"، كما يقول معلمون، وعي الطالب، ويرسل له رسالة خاطئة، ويحبط الطالب المجدّ.سناء تعتبر أن ذلك "يعطي إيحاء بأن لا أحد معني بعلاج ضعف الطلاب"، وتقول إن "ما يريده الجميع هو تزبيط السجلات وتسيير المركب"!
التعليم: بين التطوير و"الادعاء" به
سبق لتقرير للبنك الدولي، صدر العام 2008، أن سلط الضوء على خطط تطوير التعليم في الأردن، حيث تناول إصلاح التعليم في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بما فيه الأردن.
التقرير، الذي حمل عنوان "الطريق غير المسلوك"، حظي عند صدوره باحتفاء رسمي وإعلامي، حيث أشار إلى أن التعليم تقدم في الأردن على 14 بلدا في المنطقة، لكن أحدا لم يدخل في التفاصيل!
وخرج التقرير بنتائج صادمة، فبعد أربعين سنة من تطبيق برامج لإصلاح التعليم في هذه الدول، ما تزال هناك فجوات كبيرة تفصل النظم التعليمية في هذه البلدان عن دول نامية أخرى في شرق آسيا وأميركا اللاتينية، تسجل لصالح الأخيرة.
واعتمد التقرير على تصنيفه لتقدم أداء الأردن والكويت تعليميا على تحقيقهما "مستويات عالية نسبياً في إمكانية الحصول المتساوي على التعليم"، أي أنها دول توسعت "كميّاً" في التعليم الأساسي، وساوت بين الجنسين فيه.
لكن التطوّر لم يتحقق بشكل كافٍ بنوعية التعليم، ويدلل على ذلك بأن "علاقة واهية" ربطت التعليم في هذه البلدان بالنمو الاقتصادي، فالتعليم الذي يؤكد التقرير الدولي أنه أحد الشروط "الضرورية" لتحقيق النمو الاقتصادي، لم يسهم في هذه البلدان برفع الإنتاجية، والنمو الاقتصادي بالنسبة للفرد.
لهذا، دعا البنك للدخول في "جيل جديد من إصلاحات التعليم"، تحسن كفاءته، وتحدّ من أعداد المتسربين من مرحلة ما بعد التعليم الأساسي.
دون ذلك فإن هذه الدول لن تتمكن، كما يشدد التقرير، من الصمود أمام تحديات العصر، ومن أبرزها الأهمية المتزايدة لما يُعرف بـ"اقتصاد المعرفة" في عملية التنمية.
مفهوم الاقتصاد المعرفي، وهو الأكثر تردادا في خطط التطوير الأردنية، يعني أن الدول لم يعد بمقدورها تحقيق النمو الاقتصادي و"الرخاء الوطني" اعتماداً على العرض الوفير للأيدي العاملة غير الماهرة، ذلك أن المنافسة باتت تعتمد على "الشركات التي توظف قوة عمل جيدة التعليم، وماهرة فنيا".
وهو أمر يوجب على الدول، كما يشدد التقرير، التركيز في مناهجها الدراسية على تدريس اللغات الأجنبية، العلوم، وتطبيق أساليب تدريس وتقييم تطوّر مهارات التفكير الناقد وحل المشكلات والتواصل مع الآخرين.
التربية: أدخلنا مفهوم اقتصاد المعرفة للمدارس
هذا بالضبط ما يشكل جوهر عملية التطوير التي تنتهجها وزارة التربية، بحسب ما يقول الخلايلة، الذي يشير إلى انه بعد عمليات تطوير استمرت، عقودا اتجهت الوزارة، وبتوجيهات من جلالة الملك عبدالله الثاني لتطبيق التطوير المعتمد على "اقتصاد المعرفة"، فتم العام 1999 تدريس اللغة الإنجليزية ابتداء من الصف الأول بدلا من الخامس. ويضيف "تم أيضا إدخال أساليب جديدة في التدريس، جعلت من الطالب، لا المعلم، محور العملية التعليمية، وهي أساليب تعتمد مراعاة الفروق الفردية لدى الطلاب، وتطوير مهارات التفكير الناقد، والقدرة على حل المشكلات، وتطوير مهارات الاتصال بتدريبهم للعمل بمجموعات".
استراتيجيات التقييم وخطط التطوير
إدخال "أنظمة أفضل نسبيا للتقييم والمتابعة ومنح المكافآت في المدارس العامة" كان معيارا ساعد الأردن على إحراز تقدم في تقرير البنك الدولي، لكنه نوّه أن هذا التغيير كان "طفيفاً ولا يتناسب مع المتطلبات الحالية والمستقبلية".
يقوم جوهر أنظمة التقييم وأسسه على قيام المعلم بتقييم الطالب عبر رصد أدائه الفردي، وأن لا يتم ذلك فقط لمجمل أداء كل طالب، بل يجب رصد أدائه بكل مهارة لكل درس.
مطلوب تدوين رصد أداء كل طالب، وبشكل تفصيلي، على نماذج خاصة، تجمع بملفات، تحتفظ بها إدارة المدرسة، وتطلع عليها المشرفين، الذين يرفعون تقاريرهم عنها للوزارة.
المعلمون، الذين التقتهم "الغد"، يكادون يجمعون على انتقاد هذه الآليات للتقييم، ويؤكدون "عدم إمكانية" تطبيقها في البيئة المدرسية الأردنية.
عايدة، معلمة رياضيات تدرّس خمس شعب، تضم الواحدة 43 طالبة، ترى أنه "من المستحيل" رصد أداء كل طالبة وفي كل مهارة، وتتساءل: "كيف يمكن شرح الدرس، وفي نفس الوقت متابعة استيعاب كل طالبة لكل مهارة"!
إزاء وضع كهذا، فإن ما يفعله المعلمون هو أنهم يشرحون الدروس بالطريقة التي يعرفونها، ويقيّمون الطلاب أيضا بالطريقة المعتادة، وهي عقد امتحانات تحريرية.
فعايدة، ورغم أن النظام الجديد ينص على اختبار تحريري في الفصل، فإنها تعقد ثلاثة امتحانات، وهي تقول إنها من دون ذلك لن تستطيع معرفة المستوى الحقيقي للطالبات.
إصرار المعلمين على اتباع آلياتهم القديمة، هو أمر يعود، كما تقول عبير حمد، التي عملت معلمة علوم أرض ومشرفة تربوية سابقا في وزارة التربية، وتعمل حالياً في جامعة آل البيت، إلى "استسهال كثير من المعلمين ممارسة ما تعودوا عليه، ورغبتهم بعدم تحمّل أعباء جديدة تتطلبها الأساليب الحديثة، القائمة على مراعاة الفروق الفردية بين الطلاب".
وفق حمد، فقد تمّت مواءمة عملية التقييم لتتناسب مع الأعداد الكبيرة للطلاب، وطُلب من المعلمين أن يكتفوا بتقييم مجموعة من الطلاب كل حصة.
ولكن عايدة ترد بأن هذا غير ممكن أيضا، "إذا انشغلت بتقييم أداء عشر طالبات، فما هو مصير الثلاثين الباقيات"؟! خاصة في ظل كثافة المناهج.
من أجل الحفاظ على المظاهر وخلل التطبيق
القضية الآن، بحسب ما يخلص إليه معلمون، هي أن المعلمين الذين يختارون عدم تطبيق أساليب التقييم الجديدة، لا يستطيعون المجاهرة بذلك، لأن إدارات المدارس وبتوجيهات صارمة من الوزارة تقوم بجمع النماذج، التي يفترض أنها تضمنت تقييمات أداء الطلاب، لإطلاع المشرفين عليها.
ولا تقوم الإدارات ولا المشرفون بالتغاضي عن عدم إنجازها، وهكذا يقوم كثير من المعلمين، كما يُسِرُّ بعضهم، بـ"تحبيرها" نظريا.
تؤكد حمد، أن هذه الآليات "لا يمكن أن تكون فاعلة"، من دون تفعيل نظام متابعة حقيقي لأداء المعلمين وتحصيل الطلبة، وهذا "يمثل الثغرة الأساسية في التطوير التربوي".
فآلية المتابعة تقتصر- كما تشير- على حضور المشرف حصة أو حصتين للمعلم في العام، أما المديرون الذين دُربوا، كما تقول، كي يكونوا "مشرفين مقيمين" لم يستوعب الكثير منهم هذه الاستراتيجيات، ويكتفون بتسلّم الأوراق كدليل على تطبيق المعلم لها.
ويرى معلمون أن المشكلة ليست فقط في إصرار الوزارة على تطوير يرفض معلمون التماشي معه، بل المشكلة الأكبر هي في اختزال هذا التطوير في "أوراق" يطالب المعلم بإنجازها، ويتم التعامل معها بوصفها الدليل الوحيد على أدائه، وعلى تحصيل طلابه.
وضع كهذا يفسح المجال أمام غير الملتزمين من المعلمين للإهمال، إذ يصبح "الكلام" عن التحصيل بديلاً عنه.
يقول عايش إن هذا الأمر يؤدي "لخلل كبير"، يتمثّل "بإلزام المعلم بالشكليات، وتقييم أدائه استناداً على أوراق، يقوم بتحبيرها، وترك ما هو جوهري، وهو رصد التفاعل بين المعلمين والطلاب، وأثره على التلاميذ".
إغراق المعلم بالأعمال الكتابية، التي يتم نسخها بآلية، عبء إضافي، كما يقول أمجد معلم الاجتماعيات في مدرسة أساسية، على المعلم الجيد.
بحسبه، الاكتفاء بتقييم أداء المعلم استنادا إلى ما كتب، لا يقتصر على نماذج استراتيجيات التقييم الحديثة، بل يشمل كل ما يكلف المعلم بكتابته، من خطط دراسية فصلية وسنوية، وتحليلات محتوى لمضامين المناهج والاختبارات.
وكلها "أوراق"، يؤكد، أن المعلمين في الغالب "ينسخونها" عن بعضهم، فيما يحتفظ البعض بدفاتر تحضير لسنوات سابقة يغيرون فقط تاريخها، أما الخطط الدراسية "فثمة مكتبات تبيعها جاهزة مع القرطاسية"!
الوزارة "مدركة تماما" لما يحدث، حسبما يؤكّد السعودي، الذي يشير إلى أن الوزارة "تعرف أن الكثير من المعلمين لا يطبّقون ما كتبوه في الأوراق، ولكن التطوير التربوي مسألة بالغة التعقيد، وتعتمد أساسا على إحداث تغييرات في ثقافة أطراف العملية التربوية، وعلى رأسها المعلم، حتى يستوعب الهدف من التغييرات التربوية، وحتى يقتنع بها ويحوّلها لأنماط سلوكية داخل الصفوف، وهو أمر يحتاج لزمن كبير".
تغيير الثقافة مهمة لا يجوز أن تُلقى، كما يعتبر السعودي، على كاهل وزارة التربية لوحدها، فالجميع، من مواطنين ومؤسسات، شركاء في مسؤولية التغيير.
ويتساءل: "كيف يمكن للوزارة مثلاً أن تفعّل نظام مساءلة كالاستجواب، إذا كنّا في ثقافتنا ما زلنا ننظر إليه كعقوبة تمسّ بالشخصية، لا كأداة لتحسين الأداء؟".
تطوير تربوي يغفل تحسين أوضاع المعلمين
في العام 1985 كتب وزير التربية الأسبق سعيد التل، في كتابه "التربية والتعليم في الأردن: نظرية وواقع وتطلعات"، إن "ضعف خريجي المؤسسات التعليمية، سواء مدارس أو كليات أو جامعات، ليس نتيجة المناهج والكتب فقط، بل نتيجة محصّلة من الأبعاد والعوامل والعناصر المرتبطة بالمؤسسة التربوية".
ونوه إلى أن تطوير التعليم ليس فقط بتأهيل المعلم أكاديميّاً ومهنيّاً، بل أيضاً بتوفير المعلم "الراضي عن عمله، والراغب فيه".
بعد سنتين مما كتبه التل جاء انعقاد مؤتمر التطوير التربوي الأول في العام 1987، لنشهد انطلاق جهود التطوير بزخمها الحالي.
لكن المشكلة، كما يبدو، هي أن المسار الذي اتخذته هذه الجهود تمحور أساسا على تطوير المناهج والأساليب، وعلى تأهيل المعلمين أكاديمياً، كما يرى مراقبون، ومن دون أن يسير ذلك مع نظام حقيقي لتحفيز المعلمين ومكافأتهم، وهو ما انتقده أيضا تقرير البنك الدولي.
أبلغ مثال على تردي أوضاع المعلمين، هو أن الراتب الصافي لمعلم التقته "الغد"، يحمل درجتي البكالوريوس والماجستير، ويعمل في الوزارة منذ 16 عاما، هو 350 ديناراً و69 قرشاً!
ومع ذلك، فإن مطالبة المعلمين بتحسين أوضاعهم، لا يجب أن تختزل، كما يقول جمال، بتحسين رواتبهم، ذلك أنهم يطالبون الوزارة بالتواصل معهم، والكف عن تهميشهم، وجعلهم مشاركين في صنع السياسات التربوية، لا مجرد منفذين لها.
السعودي، الذي ينوّه إلى أن الوزارة تتجه نحو فتح الأبواب باتجاه مزيد من التواصل مع الميدان، يذكّر بأن "التواصل، كما هو حق للمعلمين، فهو أيضاً واجب عليهم، ويجب أن يقوموا به هم أيضاً بشكل حقيقي تجاه طلابهم".
تحقيق: دلال سلامة / الغد