د . عودة أبو درويش - عندما تمّ الاعلان عن تحويل معتقل الجفر الى مركز للتدريب المهني ، تم الطلب منّي بحكم الوظيفة أن أزور قضاء الجفر في تلك الأيّام . الآن لواء الجفر . وأن أكتب تقريرا حول الامكانيات المتاحة من أجل تحويل المعتقل ، السجن ، الى مكان يصلح لتدريب أبناء المنطقة على مهن يمكن أن يحصلوا بموجب شهاداتها على عمل . فرحت بذلك التكليف ، لأنّي سأزور السجن الذي سمعت عن صعوبة قضاء المحكوميّة فيه ، وأن جميع من يدخلوه منذ تأسيسه في عام 1953 ‘ من المحكومين الخطرين ، سواء كانوا من المجرمين أو المعارضين لسياسة الدولة الأردنيّة ، وخصوصا من دخله محكوما قبل عام 1989 ، عام التحوّل الديموقراطي في الأردن .
تجوّلت في ساحات وعنابر السجن ، بعد أن سمح لي مديره ، وقرأت على أغلب الجدران ، أسماء لمساجين كثيرين بعضهم قضى محكوميته ومات قبل سنين عديدة . انبهرت من أنّ من بين الاسماء أحد الذين استلموا منصب محافظ معان ، وآخر وزيرا في وزارة أيّام الاحكام العرفيّة وغيرهم ممن استلم مناصب قياديّة في الحكومة . لاحظ المدير الذي كان يرافقني ذهولي ، وقال لا تستغرب ، انّ الدولة الاردنيّة راسخة ، وتعامل المعارضين بتسامح وخصوصا الذين لا يبقون على اعتقادهم بتغيير النظام ، أو يقنعوا أنفسهم أنّهم بقبولهم منصبا في الدولة ، يمكن أن يحققوا الأهداف التي عارضوا من أجلها ، وأنّهم مع مرور الأيّام يصبحوا جزءا من الحكومة ، وخادمين للدولة ، وبذلك يتحقق أشياء كثيرة ، منها بيان تسامح الدولة الاردنيّة ، وانكفاء من يقبل منصبا عن المطالبة بالأمور التي كان ينادي بها ، فينزل من عيون الناس .
هذه الأيّام يتداول الناس أسماء لبعض معارضي الخارج ، غير المؤثّرين على أيّ من نواحي الحياة في الداخل ، وبعض معارضي الداخل الذين سيصبحون وبعضهم أصبح ، من ذوي المناصب الرفيعة التي ستنسيهم حتما مطالبهم ، ان كانت أصلا مطالب من أجل حياة الناس ، انّما هي طريقا للفت الانظار اليهم . ويتخّذون من معارضتهم الهزيلة جسرا للوصول الى مآربهم ، حتّى أن بعضهم ينسى أنّه يوما ما كان يرفع صوته مناديا بتغيير قوانين كان يعتبرها مجحفة بحقّ الناس ، وبعد أن يصبح مسؤولا ، مهما أو غير مهم ، تصبح تلك المطالب بالتغيير غير شرعيّة وغير دستوريّة .
المعارض الذي يعيش في أمريكا أو دول أوروبا ، ويتحدّث هناك بصراحة وبنيّة سوء على الاردن وأهله ، ثمّ يأتي الى الوطن الأم رافعا راية أنّ الأردن قيادة وحكومة وشعبا ، متسامحين وينسون الاساءة بسرعة ، أرجوا الله أن لا يكون موعودا بمنصب سياسي يصبح بعده من المنادين بمحق المعارضة التي تسمّي نفسها معارضة خارجيّة ، والتي ترفع شعارات بسقف عال ، تصل الى المناداة بقلب نظام الحكم أو تغييره .
نعود الى معتقل الجفر . كم تمنيّت أن يكون مكانا لتطوير البادية الجنوبيّة ، أو ما شابه ذلك ، الّا أنّه تمّ صرف مبالغ كبيرة من أجل ترميمه وتغيير صفته وتحويله الى مركز للتدريب المهني ، ولم ينجح ذلك ، مثل كثير من المشاريع الفاشلة . لقد أصبح خاويا لا تسمع فيه الّا صوت الرياح الصحراوية ، وتحلّق في أرجائه أرواح من كان مسجونا فيه من المعارضين الذين لم يغيّروا معتقدهم وماتوا على ذلك .