دراسة سيكو- أدبية - د. سلطان الخضور - أتذكر أن الدقائق التي استمعت فيها للشاعر الدكتور محمود الشلبي والتي تيتمت منذ ذلك الحين كانت في ثمانينيات القرن الماضي، هذا الاستماع الذي كان موغلاً في الانتباه لدرجة الاستمتاع كما أذكر، لشاعر موغل بحسن الأداء، رسم في ذهني صورة الشاعر الذي ينسجم مع المعنى فيخرج أيقاعاً انفعالياً إحلالياً تحللياً، فالمفردة الصادقة المقرونة بالجرس الموسيقي عند د. الشلبي تعطي حالة انفعالية منسجمة فنجد روح الشاعر الشلبي تحل بروح القصيدة فتخرج نغمات لها وقعها وإيقاعها الذي يظهر صداه على أذن المتلقي فتترك عليه أثراً مباشراً، فيتمنى للحظات البوح أن تطول.
ليست صدفة أن يزخر ديوان الدكتور محمود الشلبي الأخير الموسوم بحقائب الظل والصادر هذا العام عن دار اليازوري للنشر والتوزيع، ليست صدفة أن يزخر بالأحلام، فمن يعاين الديوان لا يحتاج إلى جهد كبير ليكتشف أنه ديوان حالم لشاعر حالم، وإن اختلطت مفرداته الحالمة بالحنين إلى الماضي أحياناً ورفض الحاضر أحياناً أخرى، نجده قد نجح في عملية مزج كيميائية ما بين هذا وذاك وما بين الحلم الذي سكن معظم قصائد الديوان.
وقبل تفحص مفردات الحلم التي جعلناها موضوعاً للدراسة، نبدأ بتفحص صورة الشاعر المطبوعة على غلاف الديوان حيث تظهر الصورة الشاعر واضعاً يده على ذقنه، ووضع اليد على الذقن بالطريقة التي صورت فيها، إضافة إلى ما تشي به عيناه، يجعلني أقرأ حيرة مبررة تنسجم مع الوضع العام الحائر المحير لما يرى ولما يسمع، لكن عمق النظرة "الصفنة" وبُعدَها تجعلانها تبدو نظرة متأملة ثاقبة حالمة فيها أمل بمستقبل أفضل.
وقد عبر الشاعر عن أحلامه في حقائب الظل تصريحاً لا تلميحاً فقد وردت كلمة حلم بصورها النحوية المختلفة في قصائده الثمانين التي احتواها الديوان ما ناف عن الخمسين مرة، إضافة لما ورد في القصائد من كلمات توحي بالحلم وتعزز أهميته مثل" الطموح الواردة في القصيدة الأولى من الديوان والمعنونة ب "فاتحة" ومفردة الأمل الواردة في قصيدة" للقلب حكمته" في جملة "ما أبعد الأمل المعلق
بالسراب "وجملة" ما زال في إطلالة الشمس المزيد من الرسائل للحياة "بقصيدة" رسالة ربيعية" وقصيدة" سقف الجناح التي ورد فيها" ولي أمل أن أطيل التأمل فيكِ" ومن قصيدة حروف نازفة جملة" أختار أمنية من حديقة وعيي".اخترت هذه الجمل من القصائد التسعة الأولى ولا مجال لذكر المزيد من الأمثلة وهي كثيرة لضيق المقام، لأقول أن الطموح والأمل وإطلالة الشمس وأمنية هي مفردات حالمة، أنارت درب القادم من الأيام.
.
أما مفردات الحلم فقد بدت واضحة محددة المعنى تمزج بين الماضي والحاضر والمستقبل، بين ما يجب وما يمكن، تجر ما كان إلى ما سيكون مفردات اقترنت بصور شعرية معبرة شكلت بنية قصائدية متماسكة، كانت ضرورة جاءت في مكانها وكانت إضافة لا بد منها, أشبه ما تكون بإضافة الملح إلى الطعام, ما جعلها بالنسبة لي حالة ملفته, وجدتها بعد الدراسة لها علاقة بشخصية الشاعر الطموح المعطاء الذي يحب كل من حوله ويعشق الأرض بترابها وزهرها ومائها, يعشقها بكل ما عليها وبكل من عليها, فآثرت أن تكون موضع الدراسة واعتمدت في ذلك على أخذ عينات حتى لا أطيل.
بعض القصائد سبرت أعماق الماضي وعبرت عنه حسب الموقف وبعضها ركزت على القيم الإنسانية الإيجابية وحاولت تعزيزها قصائد حاولت توظيف المفردة لتعزيز الأمل المقرون بالحلم في حالة من الوعي لحالة اللاوعي التي وردت في
قصيدة أكتب بالصمت، لتعبر عن صعوبة البوح وتَعْبُرَ إلى الكتمان حيث تجد فيه حلاً، (أكتب بالصمت إذا فاض القلب بما فيه...إلى أن يصل إلى كم نحن كما نحن ..بلا حلم...غير الوعي الكامن في اللاوعي، نريد حياة ...فيطهرنا الكتمان. وتتضح الصورة في الجزء الآخر من القصيدة حين يُكبح جماح الحلم بالصمت نتيجة التردي في هذا الزمان فنجده يقول(نصمت حين نعانق حلماً.. ونصادق غيماً...ونوسع دائرة الوعي...وأنا أبحث عن لغةٍ تنعش لغةً: الصمت في هذا الزمان المتردي عنوان). وأحيانا كان الموقف يتطلب مزج هذا الأمل بشيء من الألم والحنين لماض بدا قاسياً ومؤلماً لكن جسده يتظلل في معظمه بسحائب من الحلم. ففي قصيدة "مرآة الحال " يصعد الشاعر بحلمه إلى الغيم، يقطف حلماً صعب المنال ويطوُّعه ليبعث الروح في المقبرة لعل ساكنيها ينالوا حلم الشهادة، يقول في هذه القصيدة(كنت أرفع ظلاً إلى شرفة الغيم، أقطف حلماً عصياً...أوجه بوصلة نحو مقبرة في روابي بلادي، وأطلب من ساكنيها الشهادة،... إلى أن يصل إلى (المعاني أمامي...كثير من الذكريات ورائي...وبي حاجة للبكاء.)
وتبدو سيطرته على أحلامه واضحةً في قصيدة صوت السكون عندما يتحدث عن الهمس والعناق والطائر الشاعري
المغرد بين الغصون (وما يترك الحبُ من همسِهِ في الجفون، عناق كما يلتقي النور بالظل...طائرٌ شاعريُ الجناح يغرد في البعدِ، بين الغصون...يدجن حلماً ويسكنهُ كاملاً في انتشاء.)
هذا الحلم الذي نقشت حروفه في ديوان حقائب الظل, هو قفز ذهني من دائرتي الماضي والحاضر للعيش في دائرة المستقبل. هذا الحلم المقترن بالطموح هو حالة ملازمة لمعظم قصائد الديوان كحالة مستقبلية متفائلة يعبر عنها الشاعر، يحكمه الموقف، نجد مفرداته نسبية في قوتها، تتمدد بالاتجاهين الأفقي والعمودي، فأحيانا تبدو عريضة تفترش مساحات شاسعة من الأرض وأحيانا تختص شخصاً بعينه. وقد يبدو مرتفعاً شامخاً شموخ الجبال ففي قصيدة سقف الجناح يستنطق الحبيب والقصيدة ضرورتان لإطلاق الحلم ليحلقا بعيداً يقول في القصيدة (...كي يمر الحبيب، ويقطف فوح العبير المتاح، يقول: فلا بد لي من خيالٍ يغذّي القصيدةَ...لا بد منها... ومني.. لنطلق بعد المسافة حلْماً ونرفعَ سقف الجناحْ!! وأحياناً أخرى يجعل من الحلم بذاراً ينثره على مساحات من الأرض، فها هو تحت عنوان تقول القصيدة يتحدث عن الزحام الطفولي وعن الحياة وعن الفرح ويتمنى أن يصدق حدسه ويولد في الأرض شيء جديد. يقول الشاعر (احتجت هذا الزحام الطفولي في الناس...لأنثر حلماً على الأرض، محتفلاً بالكثير من الحلم، أمتد من ضلع آدم كالفكرة المستنيرة...تقول القصيدة ما لم يقل ...أنا أول الصوت فيَّ، وآخره حين يصدق حدس، ويولد في الأرض شيء جديد.)
من مفردات الحلم في حقائب الظل ما جاءت عابرة للجغرافيا لا تعترف بحدود، ومنها ما جاء محفزاً على العطاء يضع الشاعر في جو من السعادة التي يتم التعبير عنها بطرق شتى.
الحلم عند الدكتور الشلبي حالة تراكمية متوالدة، فقد يبنى على ما تحقق، ومن الممكن يفرخ الحلم أحلاماً أخرى قد تتساوى معه أو تنقص أو تزيد، فها هو في قصيدة بوصلة الطريق ينقطع حلمه ويكمله في اليوم التالي لأنه يعيش حالة من القلق ويتابع سيره إلى الديار وإلى الذكريات، ويربطها بالحاضر من القول. يقول في قصيدة بوصلة الغريق(قاطعت حلمي عند منتصف الحكاية، فقلت أكملُه غداً...فالليل يوسعه الهوى، والحب يحرس نفسه، فنزعت حلم مخدتي من وطأة القلق، المقيم،...إلى أن يقول فسرت إلى الديار الحافلات بموطن الذكرى وخاطب كلُّ شيءٍ أمسَه.)
وتظهر روحانية الشاعر في قصيدة "شيءُ عن الحب فيصعد بحالة الحب من الأرض إلى النجوم ويشرك القمر بدرا, ويعطي الحب لونا أخضر ليجعله جزءا من الطبيعة, ويظهر في هذه القصيدة محبا للكون فيحتفل الكون بداخله وبداخل من يحب ويعيش الكون في كليهما, حالة انصهار غير عادية, تستوعب كل هذا الذي يتشكل منه الكون. فنراه يقول يحتفل الكون فينا وليس بنا. يقول في هذي القصيدة ( قرأت كثيرا عن الحب, في كتب العشق...لكن أجمل ما فيه تجربة حررت نفسها, واقتدت بالصخور المضيئة في الأرض, واستأنست بالنجوم وبدر الدجى. محل فيحتفل الكون فينا... ونملأ أحلامنا باخضرار الثواني, ونصغي لهيدلة الروح تشدو, كأن امتداد الغصون نشيد نحيل الغصون ونكهته حرقة في النوى.
وفي كل الحالات التي درسناها نجد الحلم يتساوق مع المنطق والمألوف ومع القيم المجتمعية، ما يجعله مشروعاً وقابلاً للحياة، ما أضفى على جمال الشعر جمالاً، يعتمد في طوله وقصره على طبيعته فمنه ما يمضي عند لحظات الولادة ومنها ما يعمر لسنوات، لكن هناك حلمٌ يتجاوز هذه الصفات وينفرد بصفات لا يشارك بها غيره ألا وهو "حلم العودة للوطن" وخاصة من ترك وطنه عنوة وقسراً, وأقصد هنا "فلسطين" فمن صفات هذا الحلم أنه تلقائي المولد، يورَث ويورَّث، بالإضافة إلى أنه سريع الانتشار قد يصيب من عاشوا ذكريات الماضي، فيصابوا بمرض بالشوق والحنين وما ينتجه من ألم, ويعيشوا لحظات الرجاء. وهنا لا نستطيع أن نتجاهل تلك القصيدة التي عنوانها مقاطع من سيرة شيخة العزام والدة الشاعر وهي تحلم بالعودة وتلوذ بالصمت نقتبس منها (كنت أراها غارقةٌ -أحياناً- بالصمت، وشاردة...تنصب خيمة ذكراها...في أرض فلسطين...وترقأ دمعتها بالراحة، وهي ترى البيت المهجور بعيداً في "دنّا" فخطاها قاصرة...تتبع ظل المنفى...وتلوّحها شمس الأغوار (شيخةُ العزام) تذهب للبيارة حافية القدمين، وتملأ سلَّتها ببقول الأرض، فترجع حاملةً ومحملةً بحصاد الأيام. تبكي ...وتدق سنابل حسرتها بيد من تعب...وإذا جَنَّ الليل انتظرت عودة خاطرها المتشرد بين هنا ...وهناك.)
وفي قصيدة" فاتحة" جاء الحلم ليطرد الأرق ويبعد الهواجس ويطيح بالوهم يحيل الخيال إلى حقيقة، جاء قريباً من التحقق فبدا كقطف عنب على وشك النضج يتدلّى قريب المنال. يقول الشاعر" حتى أرى في الخيال الطفولي ما لا يرى... أستقل عن الوهم...أدنو من الحلم" وفي ذات القصيدة وتحديداً في مقطعها الأخير، يأتي الحلم على يدي حسناء تزيل غبار الكآبة، تحفز الشاعر على الكتابة، تبدو عبقة مثل ياسمين الصباح، فنجده يقول" حسناء تنثر عني غبار الكآبة، توقظني كي تحفزني للكتابة...لأرى الحلم، يرفل بالياسمين الصباحي.)
ونختم فنقول إن الدكتور الشلبي ينام على حلم ويستيقظ على حلم، حتى جعل الحلم يطلُّ من حقائب الظل.