لا تزال صورة جدّي رحمه الله معلّقة على الجدار ، وهو يقف فوق سمكة قرش اصطادها الصيّادون وبجانبه بعض الاشخاص ، وكتب عليها أنّها التقطت في ثلاثينيّات القرن الماضي في قرية المرشرش المصريّة ، عندما كان الانتداب ، الاستعمار البريطاني في فلسطين والاردن ومصر . وقرية المرشرش أو أم الرشراش لا تبعد عن العقبة كثيرا ، وكان فيها عدد قليل من السكّان وفيها مخفر للقوّات المصريّة ، ومنها يمر الحجّاج المصريون المسافرون بالطريق البرّي الذي يربط مصر بالمشرق العربي ، فيستريحون ويريحون دوابّهم ، وذكروا أنّ القرية كانت تسمّى قرية الحجّاج ، ولكنّ اسم المرشرش مرتبط باسم العشيرة التي سكنتها قبل أكثر من ألف سنه . احتلّها الصليبين فحررها صلاح الدين ، ثمّ احتلوها مرّة اخرى فحررها الظاهر بيبرس .
بعد انتهاء حرب 1948 التي خسر فيها العرب الجزء الأوّل من فلسطين ، وفي أيّام الهدنه ، وتحديدا في التاسع من آذار لعام 1949 ، هجمت قوّات صهيونيّة على القرية وقتلوا من فيها وهدموا البيوت ، ورسموا العلم الاسرائيلي على خرقة ، ورفعوه على المخفر الموجود في القرية ، وبالرغم من توّجه قوّة بريطانيّة من عمّان الى العقبة لوقف هجوم القوّة اليهوديّة على المرشرش ، الّا انهم سمحوا وبتواطؤ بين ادارة الانتداب البريطاني وأمريكا لهم باحتلالها ، ذلك أنّ بن غوريون كان قد زار المرشرش عام 1934 وطالب القيادة الامريكيّة بأن يكون لإسرائيل ميناء على البحر الاحمر ، وهذا ما حصل . الآن أكثر من ثلث التجارة الخارجيّة الاسرائيلية تتم عن طريق ميناء ايلات .
دار نقاش خارج القاعة الدراسيّة بين الطلبة الذين سيتخرّجون هذا العام . أحدهم قال أنّه سيذهب للعمل في ايلات ، فهناك يدفعون نقودا كثيره ، وأقل راتب يمكن أن يحصل عليه العامل العادي ألف دولار بالإضافة الى المأكل والمواصلات ، وهنا في الاردن لا يوجد عمل ، وان حصل على وظيفة فلن يستطيع أن يؤمّن لحياته القادمة أدنى المتطلّبات ، فهو يحتاج لمبالغ كبيرة كي يستطيع أن يتزوّج ولتأمين سكن مناسب لعائلته وغيرها من متطلبات الحياة . وأن المئات من الاردنيين يذهبون يوميا للعمل هناك خصوصا في فنادقها . ثار في وجهه بعض الطلبة . واتهموه بأنّه من المطبّعين . سألهم ان كانوا يستطيعون تأمين عمل بأجر مناسب وظروف مناسبة له أو لهم ، أو حتّى ان كانوا يستطيعون أن يقضوا على الواسطة والمحسوبيّة في ايجاد عمل لهم .
ذكّرني هذا الطالب بحال بعض الفلسطينيين ، بعد أن احتلّ العدو ارضهم ، ثمّ اقنعهم بالعمل في المزارع التي اصبح يملكها الإسرائيليين ، مقابل اجر . خمسة دنانير في اليوم وتأمين المواصلات والمأكل ، ومن يعمل وقتا اضافيا له اجر أعلى . تركوا العمل في ما تبقّى من أرضهم ، وأصبحت بعد مدّة أرض غير صالحة للزراعة . وهذا حال العمّال الاردنيين في ايلات ، يعملون من أجل ازدهار مدينة العدو وينسون العقبة ، التي سيعمل في فنادقها الوافدين . ثمّ أنّهم سيمسحون أثر قرية المرشرش ، ان بقي من أثرها شيء ، عدا صورة جدّي المعلّقة على الجدار .