زاد الاردن الاخباري -
كتب : عبدالرحمن وهدان - فلم جابر هو عمل فني لم يظهر بعد وقد أُحْدِثَت حوله جلبة دادائية فظة وتناولته أقلام سِّريالية حملتني على شحذ الهمة لقراءة رواية جابر الأصل والسيناريو الخاص بالفلم.
جاءت الرواية في 333 صفحة من القطع المتوسط، وجاء السيناريو في 118 صفحة من القطع الكبير، وكانت الصدمة المتوقعة كما قال الشاعر
وعين الرضا عن العيوب كليلة
وعين السخط تبدي المساويا
وبعد قراءة متأنية وجدت أن سوء الفهم لا يؤثر في قداسة النص كما هو معلوم .
رواية جابر أوضحت لي اهمية مفهوم الحداثية أو الحداثة فكلمة "هللويا " كلمة عبرانية قديمة قوبلت بتفسيرات واراء عديدة فمن قائل انها تعني سبحوا الله ومن قائل بانها تعني أننا نستمد الحول والقوة منه وغيرها من الأراء العديدة المتنوعه، حتى جاء منظر مقارنة الاديان المفكر الشهير أحمد ديدات لينبش هذا القديم بحداثية فائقة رائقة حملت الكثيرين من الباحثين على دراستها مجددا حتى وصلوا الى القول بانها كلمة عبرانية قديمة أُخِذَتْ من العربية وتعني توحيد الله او تمجيد الله، ومن هاهنا يتضح مفهوم الحداثة أو الحداثية بمعنى تحديث ما هو قديم في المجال الفكري و الثقافي والتاريخي دون أن يؤثر في الأصل ولا أن يخل في المعنى.
وهذا هو الموجود والظاهر والبائن في رواية "جابر "، وهكذا كان يجب ان نتناولها بكل حداثة وعصرنة، فقد جاءت الرواية بحداثة جددت مفاهيم تاريخية وفكرية وثقافية متعلقة ببركة الارض الاردنية وقدسيتها وهو ما يسعى إليه كثير من الدعاة والمفكرين والمؤرخين لإثباته وتأصيله.
ولقد استطاع مؤلف الرواية " محيي الدين قندور " من خلالها أن يثبت بركة الأرض الأردنية وقدسيتها، مستلهما ثقافته من النصوص الدينية والمراجع التاريخية العربية منها والغربية، وكان ماهرا في اشتقاق الكلمات وإتقان سبك جملها، فجاءت كالعقد الفريد لكثرة معانيها والتصاوير الفنية فيها، ومن يقرؤها يراها من السهل الممتنع،واستطاع أن يصور الأحداث كأنك تراها.
وأوضح "قندور " في روايته ونص السيناريو المقتبس منها، أن عبق الأردن التاريخي مشابه تماما لأرض فلسطين الحبيبة، فيستحلب القاريء منها أنه قد وَطِىءَ ثرى الأردن بشر من حضارات شتى، واجتازها أقوام كُثُر، إلا أنهم كانوا فيها كهامش كتاب، وما زال ولا يزال النص فيها أصيلا.
ولم يُغْفِل المؤلف فيها بأن يفصل الجدل التاريخي القائم، في أي ضفة من النهر تعمد المسيح ؟
ويستبسل في سرد الأدلة التاريخية والدينية والمنطقية حسب قراءته التاريخية والدينية ليقرر أن جهة المغطس الحقيقية هي من الناحية الشرقية لنهر الأردن، وهذا الرأي من المؤلف لوحده كاف في استشاطة غضب الجانب الصهيوني وأنه لا يستعطفهم، مع ان الجانب الصهيوني لا يفتؤ في كل مكان وزمان إلا و يروج لمكان عمادة السيد المسيح على أنها من ناحيتهم من الجانب الغربي من النهر.
وحسبنا من هذه الدراسة الجديرة بالاهتمام فضلها في الترويج للمغطس، واستقطاب ملايين المسيحيين في العالم الى ارض الاردن كوجهة سياحية دينية وترويحية.
ولكن للأسف جُوْبِهَ المُؤَلِفَ بموجة الدادئية التي لا يستحقها، فالدادئية هذه الظاهرة الشبه بائدة والمتجددة حديثا، كانت قد ولدت في بدايات القرن المنصرم كمفهوم يقوم على إسقاط الفن الجميل بالفن، فهي فن بلا فن، وتولدت بهذه الطريقة وهذا المعنى لقبح صنيع أصحابها ولإضفاء صبغة شرعية وقانونية على فعلهم حتى يصبح مستساغا للمتلقين، فمن المعيب جدا أن يحارب مصنف رواية جابر و روايته باسم الفن والحرص عليه لمجرد تصريحات من مِثْلِ : هكذا تبادر لذهني ، او هكذا فهمت ،او هكذا قيل لي، دون ترو في قراءة النص ، مع أنني أجزم قاطعا أن أغلبية الناقدين هم من صنف " صم بكم عمي فهم لا يعقلون " إلا من رحم ربي وقليل ما هم .
فلم يتناول الناقدون في رواية جابر، جمالية ذكاء جابر الغلام بمقدار ما ركزوا على اصله وفصله والتي كشفت ضحالة فهمهم لمعنى ما هو الأردني.
ولم يتذوقوا جمالية أن الاردن منبع حضارات وارض حضارات كما صورها المؤلف في الرواية، على العكس تماما فإن ما جذبهم فيها هو ذلك الحجر وكلمته العبرية وكلمة يهود دون أدنى تمييز في الفرق فيما بين الصهيونية واليهودية، وشتان بين الاثنتين ويا بعد ما بين العاتقين.
ولم يلحظوا جمالية الحوار الحاصل بين النشامى الاردنيين في الرواية والخواجات الاغراب وكيف كان حرص النشامى على كل حبة رمل فيه.
فقد جاء في السيناريو تحديدا ولأنه المعني أصلا بالنقد،هذا الحوار:
مراد يتحدث لموسى :
" لا أريد أن يبدأ اليهود الصهاينة بالتفكير في أن لهم الحق في البتراء أو بشبر واحد بالأردن لقد أخذوا ما يكفي من فلسطين الحبيبة .
ها هنا يلتفت " مثقال " وهو يتميز غيظا :
" أي همه يجربوا يقربوا علينا بشبر "
هذا النص لوحده يكذب كل الادعاءات القائلة بالترويج او حتى الاقرار بالحق اليهودي في الأردن" فإنها لا تعمى الابصار و لكن تعمى القلوب التي في الصدور"
هذا النص لوحده يوضح مدى ثقة المواطنين بقيادتهم وبجيشهم وحالة الانتشاء جراء النصر في معركة الكرامة واستمرارية أثره في التربية للأجيال اللاحقة لمعركة الكرامة، ولنتأمل العبارة مرة أخرى : " أي همه يجربوا يقربوا علينا بشبر "
إنها عبارة لا يقولها إلا من امتشق الثقة من اخمص قدميه حتى مفرق رأسه، لقد سمع قائل العبارة عن شيء من معركة الكرامة ولم يشاهدها إلا أنه ويكأنه يرى بعين اليقين هلاك الصهاينة إن عاودوها، إنها ثمار معركة الكرامة يا سادة فلا غرابه .
ومن السيناريو اقتطع ايضا رد " مارك " على الدكتورة " ليجنز " وهو ابن جلدتها حينما قالت عن عبور اليهود للأردن :
" أطروحتي هي أن بعضهم قد مروا من هنا "
فقال لها : " مرت العديد من الحضارات على البتراء و الأردن وهذا لا يعني أي شيء "، فإذا كات شخصيات الرواية هي غير معنية بالدفاع عن الاردن بهذا الوعي، فما بالنا نحن اعترانا الريب والظنون؟
والأمثلة على ذلك كثيرة، ولا يتسع المقام لحصرها، إلا أن التثبت مطلب شرعي لا يمكن الاستغناء عنه وخصوصا ان المعني وهو المؤلف " قندور " وهو أدرى بدلالات النص من غيره فكان لا بد من لقائه على الأقل أومحاورته.
وبحسرة أقولها : لم تقتصر هذه الدادائية على النص فحسب بل طالت شخص المُؤَلِف بالغمز والهمز واللمز، ومنهم من طالب بمحاكمته، فأظهروه للمجتمع على أنه يتلاعب بالنص حسب مصلحته، وأنه تعمد ذكر الكلمة العبرية ليدغدغ مشاعر هوليوود وأربابها اليهود فيها ليحصل على الدعم، وخونوه بقولهم أن دعم الفلم مقبوض ومن أيَادٍ صهيونية .
والحقيقة ان الرجل بخلاف ما رُمِيَ به تماما، فالمشروع على نفقته الخاصه ورواتب الفنانين فيه متواضعة جدا.
ولم يكتف المتنطعون بهذا الكم من الاتهامات، بل جُوْبِهَ مؤلفه " قندور "، بحركة ( سِرْيَالِيَةٍ ) منقطعة النظير، وكيف لا يكون ذلك والسِّريالية ثقافة تهدف الى البعد عن الحقيقة والتركيز على كل ماهوغريب، فهي تعبير عن العقل الباطن المُفْتَقِر للمنطق والنظام .
ولهذا نتساءل؛ كيف لنص يظهر طهر الأرض وقدسية الأرض وبركتها وشهامة أهلها، و بالمقابل للأسف يُصَوَرُ للناس على انه ترويج وإغراء للصهاينة ، وإثبات حق لهم فيها ؟
وكيف لمؤلف النص وهو ابن احد ابطال جيشنا العربي ومعارك فلسطين الخالده
كيف له ان يكون لاهثا وراء المادة والشهرة وان يكون مسوغا لأحقية الصهاينة ببلاده؟
ما لكم كيف تحكمون؟
بل كيف نتناول شخصية المؤلف بهذة الحركة السِّريالية المبتذلة والمكشوفة وهو صاحب أفضل كتاب يسمى " الترياق " والذي تحدث فيه وبأدق التفاصيل عن عملية اغتيال المناضل" خالد مشعل " رئيس المكتب السياسي لحماس في عمان؟
وهو بالمناسبة العمل الفني القادم والسيناريو المقبل، فترقبوا الاتهامات المقبلة، وإني لاستشعرها من الان، سيرمى الرجل بانه مدعوم من قطر او إيران او حزب الله او حتى انه مروج للارهاب، أو أنه من الاخوان المسلمين، لا غرابة فقد خونوه بالظن .
مع انه - قندور- تناول فيه عظمة جلالة الملك الحسين الراحل وحنكته وقدرة الاردن على المواجهة بشتى الطرق.
ولو أننا تأملنا مجمل الناقدين لسيناريو الفلم لوجدنا أن كل كلامهم يتمحور حول نقاط محددة تصبوا الى تحقيق هدف واحد وهو التشكيك في نزاهة الكاتب وروايته فمثلا يقولون:
1- كيف لجهاز المخابرات المحلي ان يخفق في مهمته ؟
قاريء الرواية يدرك تماما انه لم يكن إظهار الإخفاق هو المعني من هذه الحبكة بمقدار ما هو إبراز لذكاء الغلام جابر، والا فإن هنالك مافيا وجهات امنية اخرى قد أخفقت.
2- كيف يحق للمؤلف ان يثبت عبور اليهود في الاردن ؟ وان هذا التصريح خطير يثبت ادعاءهم ويفتح شهيتهم على الاردن كما فعلوا مع فلسطين .
وهم بهذه الدعوى للاسف الصقوا بانفسهم الطائفية التي لا تقبل الآخر ولا التعايش معه ، ولم يَرْعَوُوْا احترام المكون المسيحي في ديارنا، والذين هم يدينون بالكتاب المقدس وقد طفحت صفحاته بالحديث عن قدسية فلسطين والاردن وغيرها ، ورغم كل هذا لم نسمع مسيحيا واحدا قد فَهِمَ من هذه النصوص احقية الصهاينة في اي شبر من بلادنا العربية فضلا عن الاردنية.
فهل نحاكم الكتاب المقدس ؟ او نحبسه ؟
ام ان ما ذكر فيه كان على سبيل الإخبار لما جرى في العصور المنصرمه من أحداث وعبر ؟
وهل نمسح سورة الاسراء من القران؟ او ان نحبسها ونحاكمها ايضا ؟ فلقد اقرت بالوجود اليهودي في فلسطين ، فهل اقرارها يعد إذناً للصهيونية بحق احتلال فلسطين؟
وهل وجود اليهود في المدينة المنورة سابقا كما جاء في القران والتاريخ يعد سببا قويا في اعطاء المدينة المنورة لهم ؟
والله احترنا يا قرعة من وين نبوسك؛ بطلنا نعرف النص الإقراري من النص الإخباري.
3- واستفسار البعض التشكيكي وليس الاستفهامي، لماذا في هذا التوقيت بالذات ؟
وهم بهذا التساؤل يلحنون على ان هذا التوقيت له ارتباط بصفقة القرن، وهو ليس بجديد فانه صورة طبق الاصل لما كان يعاني منه جلالة الملك عبدالله الثاني، فرغم مواقفه الواضحة من صفقة القرن على المستويات كلها ورغم موقفه الصلب تجاه كل ما يمس الوصاية الهاشمية على القدس، الا ان جمهور المتشككين كان لا يفتر عن التشويش والتشغيب على المخلصين من ترداد الوطن البديل والقدس، وصفقة القرن، مما حدى بجلالة الملك ان يذكر في كل مجلس و زيارة موقفه الصارم والحازم في هذه القضايا، فمما ذكرته سابقا وهذا المثال الذي ضربت لكم لهو اوضح دليل على ان هذا الوقت هو الانسب والافضل لمثل هذا العمل الفني والذي ينسف كل الادعاءات الصهيونية بخصوص حقهم و وجود ما يدعم حقهم، وان النصوص الدينية والاحداث التاريخية والتنقيبات الاثرية التي تناولت وجودهم لا تدل الا على رمزية واحدة بحق اليهود والمتصهينين على حد سواء وهي ان وجودهم كان طارئا ولم يكن اصيلا .
4- وأما ما قاله بعض الطنافس من ان هنالك علاقة بين منع وزارة الأوقاف سياحا اسرائيليين من زيارة قبر النبي هارون وفتح تحقيق بخصوص هذا الامر وما بين فلم جابر، فاقول لهم لقد اخطأت إستكم الحفرة كما هي عادتكم، فهذا القرار هو صلب فكرة رواية جابر التي توضح ان لا مكان للصهاينة في هذه الارض، وانه لا بد مرة اخرى من ان نميز فيما بين الصهيونية واليهودية .
فكان الأجدربكل من تكلم جُزَافاً ومن دون علم على الأقل أن يقرأ الرواية مع السيناريو وان يناقش ويحاور صاحبها قبل أن يقع في تخوين الناس وتكفيرهم .
لأن الخيانة ضرب من ضروب التكفير وسبب وجيه عند المنحرفين فكريا لاستباحة ارواح الناس والتضييق على حرياتهم .
ولنستذكر دوما أن مثل هذه التصريحات التخوينية لكل ما هو غريب على معارفنا وجديد على تصوراتنا لا يعني بالضرورة على انه خطأ، بل قد يكون دليلا واضحا على ضحالة معرفتنا.
وهنا تحذير مهم، لقد كانت مثل هذه التصريحات عبر التاريخ سببا قبيحا في تجييش المشاعر القميئة التي حملت الناس على سفك دماء كثيره من الابرياء بسبب تخوينهم واتهامهم في وطنيتهم واخلاصهم لوطنهم، وهي من التصريحات التي تصب في ميزاب الارهاب .
وللاسف ما إن نخرج من استمناء ذهني حتى ندخل في استحاضة فكرية بحجج واهية أدناها حظوظ النفس المريبة .
حمى الله الاردن وأعز الله الهواشم
عبدالرحمن وهدان
معد ومقدم في الإذاعة الأردنية