منذ عشرات السنوات ونحن نتابع بعض الشخصيات، أو فئة من الفئات يعرضون علينا إحدى المبادرات ظاهرها فيه الرحمة وباطنها يستقر في خفايا النوايا، وهي تتعلق بظواهر اجتماعية سادت وتغلغلت وتحولت إلى أمراض مستعصية عز علاجها وصعب استئصالها .
والجميع يدرك جيدا أن هذه الظواهر قليل نفعها عظيم شرها، لكن معظمنا يقع أسيرا لها تصرعه مغرياتها الزائفة، فيلهث وراء بريقها فيشعر بالنشوة أياما ثم تسكنه الندامة سنوات .
من هذه الظواهر الحرص على تضخيم بعض المناسبات الاجتماعية كالخطبة والزفاف، وحشد الجماهير بالتخجيل أو الاستجداء أو الإغراء أو رد الجميل...... وتتويج الحفل بحضور بعض كبار المسؤولين وإقحامهم في كلمات مجاملة وخطب استعراضية نادرا ما تُقرأ فيها آية قرآنية على نحو سليم، وتتحول المناسبة إلى مهرجان استعراضي يزدحم فيه الخلق، يتركون أعمالهم ويضيعون أوقاتهم ويهرعون – غالبا – كارهين متأففين إلى مناسبة قلما يعود أحد منها فرحا مرتاحا خالي البال راضي الضمير هادئ النفس، بل على العكس كثيرا ما يعود ناقما ساخطا أو حاسدا شامتا أو متعبا محبطا أو ضجرا متوترا، فالمواقف المحرجة كثيرة ونوازع النفوس عظيمة والرضا عن الآخرين بل عن الذات عزيز المنال .
وما ينطبق على حفلات الأفراح ينطبق مثله على المآتم والأتراح، فأهل الميت – إن كانوا يحزنون – يركنون حزنهم على ميتهم جانبا، ويحتشدون معنويا وماديا لتسجيل النقاط في مهرجان التسابق الاجتماعي من حيث ضخامة الخيام ووفرة الطعام وعدد المعزّين بل فخامة السيارات، ويتوج الأمر أيضا بإعلانات عظيمة في الجرائد الرسمية والمواقع الإخبارية بحجة شكر المعزّين، لعل الشكر الصادق هدف غائب، فالهدف الحقيقي – غالبا – هو استعراض أسماء كبار المعزّين للدلالة على رفعة أهل الميت وعلو شأنهم . وقس على هذا معظم مناسباتنا الاجتماعية الأخرى، فلا وقت فيها للتمتع بفرح المناسبة، ولا مجال للتأمل في لحظة الحزن و الاعتبار، لأن البال مشغول في كل حال باللهاث وراء دخول الفاتحين بوابة التاريخ من خلال التفوق على مناسبات الآخرين .
وبعد أن ينجلي غبار المناسبة يبدأ حساب الأرباح والخسائر، فيجد طالب الشهرة أن الأرباح محصورة في الصيت وما سيقوله الناس، وسيكتشف متأخرا أن رضا الناس غاية لا تدرك وأن الحصاد كان هشيما . وأما الخسائر فسوف تتلقفه البنوك قروضا وجدولات، لتتعالى صرخاته شاكيا من أحوال البلد وضآلة الرواتب، فيلجأ إلى خنق المصروف على أسرته، ويتذمر من مصاريف والديه، ولا يصل رحمه، وتمتد يده إلى المال العام، وإلى سرقة الماء والكهرباء، وإلى أية وسيلة لتغطية النفقات والوفاء بالالتزامات .
كم نحن في حاجة إلى أن نفيء إلى إنسانيتنا، فنفرح بهدوء ونتذوق لذة الفرح، ونحزن أيضا بعمق ونتشرب لذة الحزن وحكمته في تصفية النفس وتهذيب الروح، ونفر بعيدا عن هذا الصخب الذي لوث نفوسنا ودنس طهرها وجعلها بلاقع خاوية تعوي فيها رياح التقليد والتشابه المدوية .
وكنا نأمل أن يكون أصحاب المبادرات المجتمعية صحيحي العزم صادقي النية لتغيير هذه الحال، فهل نجحوا ؟ وأين ذهبت جهودهم ؟ ولماذا صرنا إلى هذا المآل ؟ عشرات المبادرات سمعنا عنها على مدى عشرات السنوات، عولنا عليها وخدعنا بريقُها الخُلّب، وكنا نكتشف بعد كل مبادرة أننا نلهث وراء سراب .
كم مرة سمعنا عن مبادرة تقنين المناسبات الاجتماعية !! والواقع من سيّئ إلى أسوأ، وكم رجاء بُذل لتحجيم هذه المناسبات ووقف هذا الهدر ومعالجة صاحب هذا الكرم العرمرمي الاستعراضي السخيف الذي لا علاقة له بالكرم الصادق الحقيقي في إطعام الجائع الفقير، والعطف على الضعيف !! وكم مرة سمعنا عن مبادرة لوقف إطلاق العيارات النارية !! والموت ما زال يتربص بنا وبأطفالنا وهم ساهون لاهون في شرفات منازلهم وبيوتهم بل في أحضان آبائهم وأمهاتهم . وكم مقالة كتبت لوقف هذه الرجولة التافهة التي تحارب الهواء وتترك كل الساحات خالية لكل الأعداء!! وما زال بيننا من يحتال على الفضائيات ووسائل الإعلام للظهور، وينعم علينا بطلته وهو يختال معلنا مبادرته الكريمة التي غفل عنها الناس وظن أنه مبعوث لإحيائها وإعادة بعثها من رقادها، ويراها يتيمة تائهة تحتاج من يتبناها .
والمستهجن أن بعضهم يملأ الدنيا ضجيجا بأنه صاحب مبادرة لوقف إطلاق العيارات النارية مثلا، ويتفاصح وهو يجمجم ولا يكاد يُبين، ويتنافخ انتماء ووطنية بأنه سيسلم إبنه إلى الجهات الأمنية لو أطلق النار، بينما قد تجد هذا الكريم صاحب المبادرة الكريمة مطلوبا بجناية لهذه الجهات الأمنية ولا يتكرم بتسليم نفسه للعدالة ليبرئ نفسه إن كان بريئا أو يتقبل جزاءه إن كان جانيا .
وقد تراه في الموقف نفسه يسجل انتصاره التاريخي بأن حفل زفاف إبنه لم يشهد له الأردن مثيلا، حضره آلاف الرجال والنساء واحتاج إلى فرق أمنية لضبط الأمور وتسهيل حركة المرور، فكيف نوفق بين مبادرته الحكيمة التي يتبناها وهي بنت ألف أب، وبين هذا الهدر الذي يتبجح به، ويعارض به مبادرات غيره من الكرماء أمثاله ؟؟!!
حقا، لقد مللنا، ونحتاج إلى معجزة لعلاجنا....