بعض الديون لا نستطيع الوفاء بها، وردها لأصحابها، ومهما حاولنا لن نستطيع إلى ذلك سبيلا، ومنها دين الوالدين، والمعلم بذمتنا.
يقولون: الجزاء من جنس العمل. أنا لم أشأ أن أهدي من علمني الحرف في البدايات، طبقاً من الحلوى، ولا هاتف خلوي، ولا ربطة عنق، أو زجاجة عِطر فاخرة، وحتى زجاجة نبيذ ثمينة. بل أحببت أن أرد إليهم المعروف بمثل معروفهم، بالكلمات. تلك الكلمات، التي لا أملك غيرها، وتعلمناها على أياديهم المتوضئة بندى الصباح، والمعطرة بذرات الطبشور، ورائحة الحبر، والكُتب التي تشبه رائحة التراب الممطور. أنا لست مثلهم، ولا أشبههم، ولا أرضى أن ينبطبق عليَّ بيت الشعر المنسوب لأوس بن معن: وكم علمته نظم القوافي .... فلما قال قافية هجاني. بل أنتصب للمعلم، وأوفِهِ التبجيل، والإحترام، فخفض الجناح بحضرة الوالدين، والمعلم عزة، وأنفةُ، تكبر بهما نفسي.
تعود بي الذاكرة إلى نهايات السبعينيات، وأستحضر بها رائحة خبز أمي، ورائحة كتب الصف الأول، حين إمتزجت بتفاصيل وجه معلمي، الذي إستقبلني بإبتسامته الجميلة في صباح اليوم الأول لي في المدرسة. هو لم يطلب منا مغادرة المدرسة، لنبدأ في اليوم التالي الدراسة، بل شرع بالكتابة على السبورة. ألف، باء، تاء، ثاء. كان يصرخ بها، وهو يكتبها، ليثبتها برؤوسنا، كمن يثبت العطر على جدار طيني، وكمن ينقش لوحة على سطح مياه المحيط، وكمن يزرع العشب على حجر صلب. أنا كنت مشغولاً برائحة الكتب، بعد أن وضعت وجهي بين دفتي كتاب منها. فأصبحت عادة لدي للأن، ولا بُد لي معها أن أشم رائحة ورق كل كتاب جديد أقوم بشرائه.
قبل سنوات قليلة إلتقيت صدفة، بمعلمي في الصف الأول أعدادي، وقد فقد الكثير من ذاكرته بفعل التقدم بالعمر. قبلت رأسه، وعرفته بحالي، ولم يعرفني. تأثرت للحالة التي وصل إليها، مر شريط الذكريات سريعا، وتمثل أمامي بأناقته، ولغته العربية الفصيحة، وحقيبتة الجلدية السوادء، التي يحتفظ بها بأصابع الطبشور، وبأقلام الحبر الجاف، ودفتر حضور، وغياب الطلاب الأزرق، ودفتر تحضير المعلم للمادة التي يدرسها، وأوراق الإمتحانات التي يصححها في البيت. تأثرت لحاله، ولما وصل إليه. مسكين هو أعاد علي قصة حدثت معه، وكررها أكثر من عشرة مرات، وفي كل مرة كان يقصها عليّ كنت أُبدي دهشتي، وكأني أسمعها للمرة الأولى حتى لا يشعر، بأنه ممل، وفاقداً لذاكرته.
من العار والمعيب جداً، على أية حكومة تسلمت أمانة المسؤولية في بلدي، أن يموت الشرفاء من الجوع فيها، وأن لا يجدوا الأمان المالي، وما يسد عوزتهم في شيخوختهم، وبعد أن يحالوا إلى التقاعد، ومن العار أن يتسول بناة الأجيال بها، وأن لا يستطيعون الإيفاء بمتطلباتهم، وعائلاتهم لليوم الخامس من الشهر. ومن العار كذلك أن لا تلتزم الحكومة بالعهود، والوعود التي قطعتها على نفسها بتحسين ظروف معيشتهم للأفضل، ومن غير اللائق بمكانة المعلم أيضاً، وكرامته أن تجبره الحكومة أن يمد يده للطالب الذي يدرسه ، الدروس الخصوصية لتلقي أجرته عليها، ولإقتناء باص، أو بكب للعمل عليه بعد نهاية الدوام.
المعلمون: هم أساس أي نهضة تقوم عليها حضارات الدول. التي لا يثبت أركانها إلا العدل، والمساواة. ومن الواجب على الدولة، وعلينا إحترامهم، وجعلهم في المكانة الإجتماعية التي يستحقونها، وإعادة هيبتهم إليهم كما كانت سابقاَ.