ترى من أين رأى الضياء في هذا الليل البهيم؟
لعله رآه من قسوة الحياة التي عاشها في القرية ومن القرية نفسها، ومن السجن والترحيل، ومن الحيلولة دون رؤيته الأهل لفترات طويلة، والأسلاك الشائكة والمكر الصهيوني، والحرمان من الحقوق في العمل، ومن إنصاف الصديق، أو من خلال إصراره على تحقيق أهدافه رغم الصعوبات.
إنه رجل يمثل مدرسة مميزة مليئة بالعمل لكنها شبه صامتة، شارف على التسعين (أطال الله عمره) -وهو على رأس عمله التطوعي، مُقلٌ في الكلام، وإذا تكلم كان كمن يكتب توقيعاً فقط -لكنه يحسم الجدل بتعليقه المقنع، تكاد تحصي كلماته لو جالسته طويلاً.
أرسل لي صديق دواءً من الخارج -فإذا مع الدواء غذاء، هو كتاب (نافذة على الضياء).
لقد اختار لكتابه عنواناً مميزاً ألا وهو (نافذة على الضياء)، وقد جمع بين المذكرات والتأريخ، والتحليل، والتوجيه، والتكافل الاجتماعي، والنقد، وعلم النفس والاجتماع، والطب، وغيرها.....
والكتاب ليس نافذة لترى العين المحرومة من الإبصار في عالم الأشياء وتلك من أعظم النعم، بل يشمل نافذة لترى العين ما وراء الحجب من مكنونات، وما بين السطور أو بدونها تماماً.
أما الكاتب ففلسطيني مهجر، وأردني عامل بجد، وطالب متنقل، وطبيب متمرس، ناشط إسلامي، ووزير صحة أردني، وقيادي في جماعة الإخوان، ومتطوع بماله وعلمه، ورب أسرة، إنه الدكتور طبيب العيون العميد عدنان الجلجولي (أبو عمر).
تقاعد في عام 1974 عميداً في الجيش، وكان يحمل أعلى رتبة في طب العيون في الجيش، ولم يتمكن من دخول المدينة الطبية فطلب التقاعد!!
أول مدير للمستشفى الإسلامي -ورئيس مجلس الإدارة لكن لمدة لم تطل لأسباب بيّنها في كتابه بالإشارة.
يقول عن الربيع العربي:
أخذ الربيع العربي الأنظمة العربية في عام 2010 على حين غرة، فاستعادت تنظيم صفوفها واستعدت للقتال دفاعاً عن مكتسباتها، وإن أهم ما غفلنا عنه كشعوب أننا لم نُعد العدة لإدارة لحظة التغيير.
ويقول عن الإخوان:
ليست مشكلة الأنظمة مع الإخوان فقط، إنما مع كل تجربة يمكن أن تقود للتغيير.
الإخوان هم العدو الذي كان لا بد من اختراعه وشيطنته، لتبرير الانقضاض على أي تفكير بالتغيير الذي من شأنه أن يُمَكّن الناس من تقرير مصيرهم وأخذ زمام المبادرة.
لم تتمكن قيادة الحركة الإسلامية في الأردن من استيعاب دعوات التغيير والإصلاح التي انطلقت بعد الانتخابات الداخلية للجماعة عام 2012م.
صرحت قيادة الحركة مراراً إلى أنها مطمئنة من موقفها القانوني، وأنها لا تظن بأن الحكومة ستعمد إلى نقل ضغوطاتها السياسية إلى خانة التنفيذ، مستندة إلى قناعة سائدة بأن الحكومة أكثر حكمة من أن تمس جسماً بهذا الثقل، وتحصنت الحركة خلف موقفها التقليدي قبل أن تعود إلى مراجعته بعد فوات الأوان.
صحيح أنّ تحجيم الحركة هدف حكومي استراتيجي حتى في الأوقات التي تتهم فيها الحركة بالتحالف مع المؤسسة الرسمية، ولكن لست أبالغ ربما إن قلت أن ما تمر به الحركة اليوم هو إلى حد ما انعكاس لأزمة بنيوية في الهوية وفي أسس التمثيل والترشح، وآلية اتخاذ القرار والمساءلة داخلها.
كان لا بد من تطوير الخطاب والأدوات، وضرورة الإجابة عن السؤال الوجودي الأهم –وهو هل هي حركة دعوية خالصة أم حركة سياسية؟
ومن أقواله في الكتاب التي تذهب في باب الحكم والقواعد العامة، والتي استخرجها من خلال التجربة والممارسة:-
خير ما يقوم به المرء أن لا يتردد طويلاً أمام القرار، وأن يمضي مستأنساً بإيمانه أن الأمور ستؤول إلى خير، فالطريق إلى الله واسع رحب مهما اختلفت فيه الدروب.
تستمد الفكرة مشروعيتها من القيمة التي تورثها للناس بتقديم خدمة أو رفع معاناة أو بكليهما.
إن توفر النية الصادقة والاهتمام والخبرة الأكاديمية التربوية هي عناصر غير كافية لإدارة مشروع تجاري وهكذا.
لن يمنح لونُ اليافطة أو ما يكتب عليها المؤسسةَ فرص نجاح تتجاوز ما يمكن أن تمنحه أية يافطة أخرى.
الابتلاء يدفعك إلى التمسك بالأمل أحياناً وعلى فعل ما يتناقض مع قناعاتك.
ليس العمل التطوعي ترفاً، وفضلة من المال والوقت والجهد، وإنَّما هو ركن أساسي لبناء المجتمع، وهو عنصر مهم في تعزيز الانتماء.
لا بد للمرء أن يكون شغوفاً بما يقوم به، وأن يقرر التخلي عن وقته ووقت اسرته لصالح عمل عام ذي نتائج غير مضمونة، وقد يعود بالضرر على من يتصدى له، كما أن للعمل التطوعي أمراضه كذلك فيصعب تحييده عن التنافس السياسي أو المصلحي، ويحدث أحياناً أن الصورة الزاهية لأهداف المؤسسة التطوعية وما تحاول تحقيقه تتوارى خلف صراعات على السلطة، ويخسر في النهاية الرؤية الملتزمة لصالح من هو أكثر قدرة على الحشد والتأثير.
قبل أحداث أيلول عام 1970 لم يكن ثمة تَفشّ للنزعة الإقليمية التي قسمت المجتمع لاحقاً إلى أردني وفلسطيني أو كادت!!
إن الفرز والتصنيف هو من طبيعة الأزمات، وبخاصة إذا كانت الهوية الجامعة غير ناضجة بما يكفي لبناء مجتمع منسجم ومتوافق حول فكرة المواطنة.
نجحت كثير من الأمم الغربية منها على وجه الخصوص في تجاوز الفكرة القومية لصالح فكرة جامعة تقوم على المصالح المشتركة لمجموع الناس الذين ينتمون إليها، ومن خلال عقد اجتماعي يقبل فيه الفرد ويلتزم بالمصلحة المشتركة للمجتمع، مقابل قبول المجتمع بمنح الفرد فرصة مساوية لأي فرد فيه، ولكن ما زال الوطن العربي مسكوناً بفكرة الهوية الوطنية وإعادة انتاجها واختراعها في بعض الأحيان جغرافياً أو عرقياً أو دينياً، ولا تلبث هذه الهويات أن تتفتت نحو هويات أصغر عند تعرض المجتمع لأية صدمة داخلية.
يدهش المرء بحجم الخير الموجود في نفوس الناس على اختلافهم غير المدفوع بصلات القرابة العرقية أو القومية أو الدينية، ولا يتطلب اظهاره سوى أن يشعر الإنسان بالتعاطف تجاه الآخر لكونه إنساناً فحسب، وربما يفيدنا من حين لآخر كما كنا نحن أنفسنا ضحايا لصور نمطية أو لرواية منقوصة تبرز فينا جانباً وتغفل جوانب عديدة، حتى نعود إلى رشدنا وننظر للأمور بموضوعية ونتصرف بمقتضاها.
ليس من السهل على المرء أن يقر ببلوغه المحطة النهائية ولكني سأبقى فاعلاً ما بقي بي من قوة.
ولا أدري كيف يكون لأحدنا أن يكون له خيار آخر سوى المتابعة حتى النهاية، ونحن تربينا على وعد الله في كتابه باستخلاف المستضعفين في الأرض.
لم يستطع أحد أن يشككني في تفاؤلي ربما لأنني أدرك أن انقطاع التفاؤل هو صنو الموت.
كل ما أطلبه من الناس هو أن لا يتوقفوا وأن لا يستسلموا وأن لا يحبطوا، وسأكون شاكراً لو شملوني بشيء من دعاء صادق.
اللهم بارك لأبي عمر فيما عمل، وارزقه أجر ما كان ينوي من صالح عمل، ومتعه بالعافية ومتعنا به آمين
سالم الفلاحات
24/10/2019م