كنت قد طلبت من أمي في وقت سابق، أن تعد لي فتة الحليب. ولمن لا يعرفها من الجيل الجديد هي: قطع من الخبز يتم تقطيعها باليد وغير منتظمة الشكل، توضع بإناء عميق ويوضع عليها السمن البلدي، ثم الحليب المحلى وهذه مكوناتها فقط ثم تخلط مع بعضها البعض حتى تتشرب قطع الخبز الحليب فتصبح أكثر ليونة وطراوة، ونتناولها بالملعقة، وننتشي بطعمها اللذيذ.
كانت غايتي من ذلك هو العودة لزمن جميل ذهب ولن يعود وإستذكار شيءٌ من طفولتي، وفقرنا. فقرنا ليس بالمعنى الحرفي إنما هو فقر ذلك الزمان بكل ما فيه، ومن حلويات لم تكن موجودة، كما هي الآن متوفرة وبأشكال مختلفة، وأثمان متفاوتة.
ما زلت أذكر حلويات ذلك الزمن الجميل. ناشد إخوان الذي كانت تتم صناعته في سورية، ويتم إهداؤه في جميع المناسبات، أو السولفان المحفوظ بصندوق كرتوني مسطح وغير سميك، ويحوي هدية جميلة، عبارة عن صورة لمنظر طبيعي أو صورة لذلك الطفل الحزين، ذو الوجه الجميل، والشعر الكثيف المسرح، أو بسكويت الدبل ويل، أو بسكويت الويفر، وإن كان لك قريب يعمل في دول الخليج، وكنت من الأعزاء عليه، ومحظوظ يُهديك علبة فاخرة من شوكولاتة الماكنتوش، تحتفظ بها والدتك أعلى الخزانة الخشبية، وقد تنتهي مدة صلاحيتها، قبل أن تتذوق قطعة منها، فيتم الإحتفاظ بها، لمناسبة ضخمة كطهور طفل، أو زواج الإبن الأكبر ، أو نجاحه في الثانوية العامة، أو تخرجه من الجامعة، والبرازك كان يحضرها الوالد نهاية كل شهر أو قد يمر الشهرين والثلاثة بعد أن يحصل على راتبه، أما الكنافة فلا يمكن أن تتذوقها إلا في المحل حين ترافق والدك إلى السوق، أو يرافقه باقي أفراد أسرتك، وتسعد بطعمها المميز، وخاصة بعد أن ترتوي من الماء الموضوع بآنية مصنوعة من الألمنيوم. أنا أتحدث عن حالنا كأناس قرويين بسطاء، ولا أعلم عن الحال الذي كان عليه الناس الميسورين ممن يقطنون منطقة جبل عمان، وربما جبل اللويبدة في ذلك الوقت، وكان يطلق عليهم لقب الناس الكُبار. بظم الكاف.
لا أحد يعلم عن تفاصيل حياتك، وماذا تحب وماذا تكره إلا أمك. أمي تعلم جيداً عني كل شيء. فهي تعلم أنني أتناول القهوة بفنجان، ولا يمكن أن أتناولها بكأس زجاجي أو كرتوني، وتعلم أيضاً بضرورة وجود كأس الماء بجانب فنجان القهوة، وأنني لا أتناول القهوة بوجه، كما يرغب بها الكثير من الناس. هي تعلم أيضاً بإدماني على الشوكولاتة، لذلك تخبئ لي في خزانتها الكثير منها، وما غلا ثمنه، ومما لا أجرؤ على شرائه أحياناَ. هي تعلم عني أدق التفاصيل، وأشاركها بكل شيء في حياتي، وأخبرها به، وقد أطلعها على برنامج أو محتوى فيديو وصلني على هاتفي وأتناقش به معها، وقد تعاتبني على جراءتي فيما أكتب بعد أن يكون قد وشى بي أحدهم إليها من أقاربي.
بالأمس وعند زيارتي لها، جلست بغرفة المعيشة. هي توجهت لغرفتها، وأحضرت ما لذ وطاب من الحلويات والشوكولاتة ثم توجهت إلى المطبخ وأحضرت الفاكهة، بعدها تناولنا الغداء وأحضر شقيقي الكنافة وقمنا بتناولها أيضاُ. في السهرة الشاي، والقهوة، والحلويات أيضاً والفاكهة، حتى وصلت حد الإشباع لم أستطع تناول أي شيء بعدها. غادر الموجودين منزلها وبقينا لوحدنا، تحدثنا كثيراً ثم أمسكت بكتاب أطالعه. هي توجهت إلى المطبخ كعادتها بنهاية السهرة. وبعدها بدقائق قامت بالمناداة عليّ. توجهت إليها لأجد أنها قد أعدت لي فتة الحليب! شكرتها بالطبع وشعرت بدهشتي حين قلت: أوووو والله زمان عن هالأكلة، وبدأت بتناولها. يا الله لم تكن بطعمها الجميل كما كانت عليه قبل أربعين عاماً، لقد تغير طعمها كما تغير كل شيء في حياتنا، لم أجعل أمي تشعر بعدم تلذذي وإستمتاعي بطعم فتة الحليب التي أعدتها، فقد كنت أصدر ذلك الصوت (أممممممم) دليلاً على التحبب، وكنت أرى سعادة أمي في عينيها وأنا أوحي إليها أنني أتناولها وأستشعر طعمها.
الآن أتساءل: هل تغير طعم فتة الحليب عن طعمها في السابق؟ أم أن أذواقنا قد تغيرت بالكثرة والوفرة وتعدد الأنواع، وهل الجوع والفقر يجعل لحياتنا طعمٌ أخر نستمتع به بالمتاح على قلته، وعلى بساطته؟ أنا أقول ربما، ولقد تأكدت من ذلك ذات يوم حين كنت لا أملك سوى عشرة قروش في جيبي، كنت جائعاً. إشتريت بها رغيف خبز ساخن وتناولته لوحده، وكان أشهى ما تناولته من طعام في حياتي وما زال طعمه في فمي للآن.