د. سلطان الخضور - بربك هل زرت اربد يوماً أو أقمت في حواريها؟
وهل شربت من مائها
أو بللت الريق من خوابيها؟
هل مررت بزيتونها أو تظللت يوماً بروابيها؟
هل تنسمت هواءها ليلاً أو تعللت في بواديها؟
هل أشرفت على مداخلها
وشعرت أنك ملاقيها؟
بربك هل عرفت تاريخها وأدركت بعد الدرس معانيها؟
عند عودتك إلى إربد، بعد غيابك عنها ولو لسويعات معدودات، وعند اقترابك من مداخلها، سينتابك شعور مختلف، ستجد نفسك بلا شك تأخذ نفساً عميقاً تشعر بالحاجة إليه. هذا الجو الريفي الإربدي، الذي مهما زحف نحو المدنية ومهما انحرف باتجاه زحامها، يبقى له رونق خاص وكأن نسمات الأوكسجين تهب فوق سمائها وتمر مصفّاة منقّاة، خالية من شوائب ثاني أوكسيد الكربون، فتحفز القادم إليها على أخذ نفس عميق، وكأنه عربة تزودت بالوقود.
إربد تعرف عليها التاريخ وصادقتها الحضارة، ورافقها الهدوء، ولازمتها السكينة في وقت مبكر، فمدت جذورها في حواضرها وفي سهولها الخضراء، وذهبت خطوطها إلى جهاتها الست، ففرشت بسطاً خضراء ونثرت زيتونها شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً وتعمقت جذورها في سالف الزمان، فتعقم هواؤها وهبت نسائمها، وارتقت تستمد من شمس الظهيرة دفأها، فامتازت بالحنين وفاز أهلوها بالحنان فارتسمت معالم وجهها مستبشرة متبسمة، فانعكس جمال وجهها على أهلها فزادهم جمالاً على جمال، وافترشت العراقة سجادتها الخضراء واتصلت مع نسائم الريح لتهب عليلةً يطيب بأرضها البقاء.
إربد ذات الوجه الصبوح المليح، مدينة دائمة الابتسام في وجه ضيفها، لا يعرف العبوس إلى وجهها طريقاً، فتقدم له أجمل ما لديها، تقدم له الراحة النفسية والجسدية، فتولد لديه رغبة أكيدة بالبقاء في ربوعها، وتلبي حاجته إلى الهدوء والطمأنينة وراحة النفس والبدن.
لا تعطي اربد -على اتساعها- زائرها ولا مقيمها - انطباعاً مدينياً كما هي المدن الكبيرة. بل يشعر قاطنها ب" المديريفية" القريبة من النفس.
يقطنها ما ينوف عن المليون من البشر، يتنعمون بنقاء هوائها وجمال ريفها، ويفترشون سجادتها الخضراء في كل ربيع، يستنشقون عبيرها نهاراً، ويقضون أجمل الليالي في صيفها القمري الذي يزيد القلوب ألفة ومحبة، فيتسامرون ويمضون أمتع الليالي في جو عائلي بهيج، قل نظيره في دنيا الجمال.
وتنتجً ثالث المدن الأردنية بعد الزرقاء وعمان، ما طاب من الخضار والفواكه، وقد عرفت سهولها بأهراء روما، لما كانت تنتجه من القمح الذي كانت تنثر حباته على السهل والجبل، ما منحها صفة العطاء واكسبها جمال اللون ورائحة الزهر.
كانت إربد وما زالت كالأم الرّؤوم، التي تمنح الخير كل حين لأهلها وصويحباتها من المدن والقرى بعدت المسافات أو قربت، تعطي مما وهبها الله من نعم.
وحين تذكر اربد يذكر معها اللوز والزيت والزيتون التي تتهادى أشجاره على سفوح الجبال وبطون الوديان. فبات يشار لها بالبنان. ومن يشير يقول دام الخير فيك على مدى الزمان.
وللثقافة ماض وحاضر نصيب من العطاء والبقاء والنقاء، فقد استوطنتها الثقافة في وقت مبكر، وقد كانت وما زالت رافد رئيس من روافد الثقافة الأردنية، وما أكثر المثقفين فيها، كانت ولا زالت تزخر بأنشطتها الثقافية المتعددة، فتكاد لا تخرج من نشاط حتى تدخل في نشاط ثقافي آخر ، فلها مع الثقافة من القصص الكثير، والكل فيها يدعو الكل، والكل يحضر للكل، وكأن النشطاء الثقافيون في سباق مع الزمان، كل منهم يريد أن يقدم أكبر قدر مما يستطيع في أسرع وقت ممكن، فهم يستلهمون مفردات اليرموك وأبي عبيده ومعاذ بن جبل وعامر بن أبي وقاص، ويعيدون صياغتهاعلى الشعراء والكتاب والباحثين. ومن جنبات قصبتها يستلهمون إرثاً حضارياً، فيغرفون من بيت عرار ومن بيت النابلسي عبق التاريخ، ويؤرخون لقادم الأيام عندما تتربع مدينتهم على عرش الثقافة العربية في زمن ليس عنا ببعيد.
إربد تستوعب بين جنباتها كل التنوع السكاني المحلي والعربي، ففيها المدني والقروي والبدوي، وفيها الفلسطيني والسوري والعراقي والليبي والجزائري واليمني والتونسي والمصري والعماني والقطري والسعودي والكويتي، يتجاورون في عماراتها، تجمعهم المحبة والألفة واللحمة، فقد استحقت بحق كما هو الأردن أن تكون مؤلاً لكل العرب، منهم من يبحث عن العلم، ومنهم من يبحث عن الأمن، ومنهم من يبحث عن العمل، ومنهم من يبحث الهدوء، ومنهم من يبحث عن التجارة، وكل يجد ضالته، فيطيب به المقام، ويجعل منها موطناً يتمنى أن يكون مستقراً على طول الزمان.