كتب الدكتور سمير محمد أيوب - سبحانَ مَنْ مَنح الياسمينَ شيئاً مِنْ عبَقها ، ومن أشاع في جبال السلط شيئا من خضرة عينينها ، ومنَحها الكثير من عنفوانِ الكرك وعكا . صديقة تجاوزت الأربعين بأكثرِ مِنْ مئة شهر. زاهدةٌ غيرَ مُتَطلِّبَةٌ . يمامةٌ زرقاءٌ ، تُحسنُ رؤيةَ ما يَخفى لا ما ترغب به فقط . أفتقدها كلَّما شُبِّهَت لي نوافذ ، أو غُلِّقتْ أبواب وكلما ابتدأت مناوشة في حرب . فهي معطفي وسيفي وكنانتي وجعبة الرصاص وضابط الرماية .
لحفظِ ضالَّتنا فيما نؤمن به ، إعتدنا بين الحين والآخر ، أن نطلبَ حقَّ اللجوء إلى طُهرِ البِدايات ، في أكثر مِنْ غارٍ مُطلٍّ على فلسطين ، مِنْ أم قيس في شمال الأردن إلى العقبة في أقصى الجنوب . نسري إليها ونَهْجرُ الكثيرَ من أنفسنا . ونغالب كبرياءنا كثيرا ، لنتجرأ على واقعنا ، ونصطاد شمس المغيب ، أونشاغل قمر المنتصف ، أونعيد الحياة لبعض نجوم الظهر .
قبلَ حوالي شهرٍ ، مسَّني دنسُ مُسلسلِ "أمِّ هارون " بالكثيرِ مِنَ الهَوان . إزدحمتُ بغضبٍ حزينٍ . فاتَّصَلْتُ بها واتفقنا. جَرْجَرْتُ خِذلانيَ . وأسريتُ عصراً إلى ربيعِ وادي شُعيب غربي عمان . إلتقينا في ظلال شجرةِ توتٍ ضخمة ، مُثقلةً بِكبوشِ التوت . تُزيِّن الكَتِفَ الأيمنَ للشارع الهابط إلى الأغوار . إستَقْبَلَتني هاشَّةً باشَّةً ، وعيناها بِقلق تسأل : أراكَ مُثْقلاً بالهمِّ ، ما بالُك يا صديقي ، ما الجديد ؟
وأنا أتخذ لي مقعداعلى صخرة قبالتها ، أجبتها وظل ابتسامة تزنر وجهي : مع شمسِ كلِّ يومٍ بِدايات لأمل جديد . وفي عَتمِ كلِّ ليلٍ ، حُزنٌ جديد مُرهق . ألأجَدُّ ، قلقٌ وحزنٌ وغضبٌ ، تسلَّل مؤخرا بلا رحمةٍ إلى قلبيَ وعقليَ ، أخافني وأفقدَني الكثيرَ من الطمأنينة .
سألت وهي تشعل سيجارتها الاولى : في أيِّ سِياقٍ هوَ ؟
قلتُ وجسدي منحنٍ إلى الأمام باتجاهها : هالَني منذ أيام ، كغيريَ منْ شرفاء الأمة ، منظومةُ سكاكينٍ تَستظلُّ العروبة َ، تطعنُ الصدرَ الفلسطينيَّ بعلانية وقحةٍ ، بعدَ أن كانت بالغدر السري تغرس في الظهر . أذهلني جديد تلك النصالِ المعتوهة : " فلسطين لليهود ، ولا حق للفلسطينيين فيها " . إجتاحني رعبٌ أخلاقيٌّ ووطني من قادم سوق النخاسة . فقد تخطى البائع فيه والتابع والمستثمر منهم ، مرحلة العمالة المُمَوَّلة ، إلى النفخ في أبواقٍ تُحاولُ بالسُّخرةِ إعادةَ كتابةِ التاريخ ، بطريقة مشوشة تخدم أسيادهم . يتمادون في التَّنكر لقدسِ أقداسِ الأمَّة ، والتشويش على عذابات الجبارين فيها ،يتواقحون في تشويه نضالهم ، بباطل الشتائم وفتات الشبهات .
ولأني كغيري من المؤمنين بأن العدو الصهيوأمريكي ،ما اعتاد الصيد إلاَّ وكل كلابه معه ، ولأننا نقرأ الوطنَ في المحصَّنِ منْ دمِ الشهادة ، الذي تسامى إلى ذرى الوجود ، لا ما سُفِح من دمٍ في أسواق النخاسة ولا ما انحدر منه في مستنقعاتِ المصالح العدمية ، سنبقى مؤمنين بأن حراس أرض الأنبياء أوفياء . ولن تهون على عربي حر شريف .
وقد سقط القناعُ تلوَ القناع ، وانحسر الكثيرُ منَ الوهمِ المُتذاكي ، جئتُ أسألكِ بقليلٍ منَ السَّذاجة الحَذِرة : وقد صبأ أكثرُ مِنْ حَنْثَلةٍ عربي ، أينَ صواعقَ طيورِ الرَّعد ، أين عصا نبي الله موسى ، لتلتهم هذا الإفك ، وتردع المستثمرين المعتوهين فيه ؟!
وبوجع محتار ، جئت بلا سذاجة أسألك ، عمَّن نلوم في هذا التشويش لبيع الوعي ، وبِمَن نبدأ ؟ أنلوم العدوَّ الذي كتب العُواءَ ولَحَّنهُ وبرمَجه ؟! أو نلومَ الرعاةَ الإقليميين ، والمُوجِّهين القطريين ،وضباط الإيقاع منهم ؟! أو نلوم المُتنكرين ، المُنقلبين ، المُنسلخين ، الصامتين والعاجزين ، فيما يسمى ظلما بالسلطة الوطنية الفلسطينية ،وفصائل وفسائل منظمة التحرير ؟! أو نلوم مَنْ في قطيعِ اوسلو من أرامل وأيتام ولقطاء ، ممن يحاولون تغطية شمس وأقمار الثورة ، بغرابيل الكذب والتدليس والاستخفاف في حكاوى تأجير البنادق ، توطئة لمصالحاتهم للوهم وللغدر ، وتفيؤ ظلال المحتل ، إبتعدوا كثيرا يا سيدتي ، وما إقتربوا من شيء ؟!
كيف وصلنا إلى هنا ، كيف سقطنا في امتحانات الجدل المحتدم منذ طُهرِ البدايات ، بين غبار الخنادق وعطر الفنادق والنضال الزاني ؟!
تابَعْتُ أسئلتي وهي تنفث بتوتِّرٍ ظاهر دخان سيجارتها الثانية : هلْ شارك العبث الرسمي الفلسطيني ، في التأسيس تعمُّدا لهذا العبث , وتكثيره وإشاعته والاستثمار فيه . هل قصَّر المناضلون وشاركوا في الخديعة الكبرى ، أم التآمر وحده هو من داهمهم وفرض توابعه المباشرة وغير المباشرة عليهم ؟!
وهي تنهض ، أطفأت سيجارتها بقدمها . واتجهت الى سيارتها، لإحضار عدة القهوة ، وقالت وهي تلتفت إليَّ : نحن في اليوم الأخير من شعبان المبارك ، هات يدك لِنُعِدَّ لأنفسنا طاسةً من القهوة على نار الحطب . بعدها ونحن نطلُّ من هنا ، على قبابِ القدس نتلمس معا أجوبة لأسئلتك .
ألاردن - 11/5/2020