الدكتور عديل الشرمان - الكثير ممن يعملون في وسائل الإعلام، وممن يعهد إليهم بتغطية أخبار الأوبئة والأمراض المعدية، والأزمات التي تسببها، فإنهم غالبا ما يسعون للإجابة على أسئلة مفترضة يقومون هم بإعدادها والتفكير في طرحها لتغطية ما يحدث، وأول ما يدور في أذهانهم، وأول ما يضعونه من أسئلة، تلك المتعلقة بأعداد الوفيات وأعداد المصابين، وحجم الآثار المترتبة على ما يحدث.
وهذه هي العقلية الخبرية التي يميل إليها الكثير، وهؤلاء يذهبون بتفكيرهم بعيدا، مغلبين الأنا في كيفية إثارة المشاهد أو المستمع أو القارئ لما يقدمونه من محتويات إعلامية (أخبار، تقارير، أرقام، وأحداث،..)، ولا يغيب عن بالهم التفكير في السبق الصحفي الذي يشكل هاجس الكثيرين ممن يمارسون العمل الإعلامي، والذي يجلب لهم ولوسائلهم نوعا من الشهرة والذيوع وتحقيق الذات.
كما يراود الكثير من العاملين في وسائل الإعلام وهم يقومون بتغطية أخبار الأوبة والأمراض المعدية هواجس وحسابات ومخاوف متعلقة بمدى توافق ما يقدمونه من أخبار مع سياسات الدولة وتوجهاتها في الإفصاح أو التستر على المعلومات، وهي مخاوف مشروعة في ظل بعض الأنظمة الحاكمة المغلقة والشمولية والتي اعتادت فرض سيطرتها وهيمنتها على وسائل الإعلام حتى في الظروف العادية، فما بالك في ظروف طارئة وحسّاسة، كما حصل مع تفشي وباء فيروس (كورونا) على نطاق واسع، لذا فإن حساباتهم وما يفكرون به على هذا النحو يعد في جانب كبير منه مشروعا ومتوافقا مع حق الصحفي في حماية مصالحه، ومصالح الوسيلة الإعلامية، بشرط عدم التعارض البائن مع المصلحة العامة.
وفي ظل هذه المخاوف فإن كثيرا من الإعلاميين غالبا ما يستخدمون تعبيرات تزخر بالمجاز، والكناية، وبعضها تعبيرات غامضة ضبابية فيها الكثير من التلميح، والخشية من التصريح، وهي حيلة أو وسيلة دفاعية يدرأ من خلالها الصحفي الخطر عن نفسه، ويواجه فيها الضغوط من حوله والمؤثرة في صياغة المحتوى والمضمون الإعلامي.
إلا أن حصر التعاطي والتغطية الإعلامية للأحداث والأزمات بهذه الأسئلة المحددة والمساحات الضيقة، يعد تحجيما للدور الهام والحيوي للإعلام في هكذا ظروف، ونوعا من التخلي الضمني لوسائل الإعلام عن دورها ومسؤولياتها الاجتماعية والأخلاقية تجاه المجتمع، وتجاه أمن وسلامة الأفراد فيه، وفي ذلك السلوك الإعلامي تقليل من أهمية الدور الذي يمكن أن تؤديه وسائل الإعلام في مساندة جهود الدول والحكومات والشعوب في السيطرة على الأزمات والتخفيف من حدّتها وتداعياتها.
لذا فنحن بحاجة إلى ممارسات إعلامية أكثر عقلانية، وأكثر مرونة وانفتاحا، وتتطلب أنماطا فكرية مختلفة قادرة على تفهم طبيعة الدور الحيوي لوسائل الإعلام في هذه المرحلة، وتتجه نحو التفكير العميق فيما يمكن تقديمه للناس من مضامين متخصصة ذات طابع تفسيري وفيها من الاستمالات الذهنية والمنطقية ما يمكنها من تقديم نماذج سلوكية للجمهور، وإحداث تغييرات في اتجاهاتهم نحو السلوكيات الضارة التي تفاقم من انتشار الأوبئة والأمراض المعدية، وأن يكون ذلك جزء من أجندات هذه الوسائل في إطار واجباتها، وعلى نحو لا يخلّ بمصالح كلا الطرفين، ويوفق بين مصالح الوسائل ومصالح المجتمع ضمن أسلوب مهني عالي الذكاء والاحترافية.