لا يحتاج الأمر للكثير من التحليل والذكاء لكشف الأسباب الحقيقية وراء إنهاء الحكومة لخدمات مدير عام دائرة الإحصاءات العامة الدكتور قاسم الزعبي، فالأمر واضح.
أرقام دائرة الإحصاءات فيما يتعلق بمعدّلات الفقر والبطالة باتت مزعجة لكثير من الوزراء، ومؤشر مهم على فشل الحكومة في مواجهة هذين التحديين اللذين يشكّلان تهديداً صريحاً للأمن الاقتصاديّ للمملكة.
أرقام الفقر والبطالة الرسميّة التي تصدر من دائرة الإحصاءات العامة تعارض الخطاب الرسميّ بتحقيق إنجازات في هذين الملفين المهمين، فما تعلنه الحكومة من إنجازات في التشغيل والعمل الاجتماعيّ يصطدم بأرقام مفزعة، تتنامى يوماً بعد يوم فهناك أكثر من 31 جيباً من جيوب الفقر باتت معدّلات من تحت خط الفقر فيها تتجاوز نسبتهم الـ25 بالمائة، في حين أن معدّلات البطالة بلغت رقماً قياسيّاً جديداً في الربع الأول (19.3 بالمائة)، وهي الأعلى في تاريخ المملكة، وهي مرشحة فوق العادة لتجاوز هذه النسبة في الربع الثاني جراء أزمة كورونا.
طبعاً هناك من الوزراء من يحاول التدخل في الرقم الإحصائي، وتوجيهه بالشكل الذي يحدّ من تداعياته على وزارته، من خلال طرح مسميات مختلفة تسمح له بالتدخل في عمل الإحصاءات كالقول بضرورة التنسيق المسبق بين الدائرة والوزارة المعنية، أو التعاون المشترك، أو إعداد منهجية جديدة في العمل الإحصائي في قطاع ما وغيرها من الشعارات التي تهدف أولا وأخيرا للتدخل في شكل وحقيقة الرقم الإحصائي النهائيّ.
هنا أودّ تذكير القارئ والمراقب والحكومة معاً، أن مصداقية الرقم الحكومي لا تقبل المساومة، وهي جزء أصيل لا يتجزأ من مصداقية الحكومة في الداخل والخارج معاً، وهي دعامة أساسية لقرار المستثمرين أو المانحين، وعودة إلى سنة 1998 وأزمة أرقام النموّ الشهيرة في المملكة، حيث أصرت الحكومة حينها وخلال مباحثاتها مع وفد من البنك الدوليّ أن أرقام النموّ الاقتصاديّ في تلك السنة تبلغ 6 بالمائة، إلا أن رئيس بعثة البنك الدوليّ وهو وزير الماليّة التركيّ السابق الدكتور كمال درويش كشف لمسؤولي الحكومة الأردنيّة في وقتها أنهم يملكون معلومات وإحصاءات تؤكد أن النمو في الاقتصاد الأردنيّ سالب، وليس 6 بالمائة كما تدعي بذلك الحكومة، وأن الأرقام التي تم تزويد البنك الدوليّ من قبل بعض المسؤولين غير صحيحة على الإطلاق.
بعد التحقيق في أرقام النموّ المحليّة تبين صدق ادعاءات البنك الدوليّ، مما تطلب إرسال رسالة اعتذار رسميّة من الأردن للمؤسسات الدوليّة عما حدث.
أسرد هذه القصة الحقيقية للتذكير والتحذير معاً، من أن تدخل الوزراء في عمل الإحصاءات العامة أو محاولة توجيه أرقامها بما يخدم سياسة الوزارة وأنشطتها المختلفة عمل خطير يتوجب إيقافه بكُلّ الوسائل وعدم السماح به من أي شخصية كانت، فاستقلاليّة الرقم هي شهادة مصداقية للمملكة عند الجميع.
الرقم الإحصائي السليم هو مرآة لصانع القرار وراسمه، ومؤشر على مواطن الخلل، ويساعد في إعادة التقييم والمراجعة الفوريّة لأي سياسة أو إجراء حكوميّ، فلن يفيد الحكومة التغطية على الرقم الإحصائي الحقيقي، لأن الأمر سينكشف في النهاية، فالحقيقة لا يمكن بأي شكّل من الأشكال إخفاؤها مهما طال الزمان، حينها تكون كُلف العلاج أكبر بكثير من المراجعة الفوريّة بعد ظهور الرقم الإحصائي مباشرة.