د. سلطان الخضور - تعيدني مقارنات الدكتور حسين منصور العمري بين ما كان, وما هو كائن في رواية لعنة الفراعنة الصادرة عن دار اليازوري للنشر عام 2012 إلى أوائل الثمانينيات, حيث كان علي واثنين من أصدقائي أن نعيش في قرية صغيرة نسبياً وأن نسكن هناك, حيث كان أحد الصديقين يكرر يومياً نفس السؤال" لماذا يقيم هؤلاء الناس في هذه القرية ولماذا لا يعيشون في المدينة؟
لم يكن صديقي يدرك ما كنا نقوله باستمرار وما كان الدكتور حسين منصور العمري يدركه حين نسجت حروفه " لعنة الفراعنة". ومفاد الحكاية يعود ويقود إلى قصة الانتماء, وحين يكون الحديث عن الانتماء تغيب عن المشهد معطيات الربح والخسارة ومعطيات الحضارة وسهولة الحياة وصعوبتها والضوء والعتمة, وكل الذي يطمس هذه المشاهد شيء وحيد وهو الانتماء المجبول بحب المكان القديم دون الالتفات إلى كل ما يستجد في المكان الجديد, وأن القرية الصغيرة ودكان الحارة ووقع العملة المعدنية النحاسية وغيرها من شواهد المكان تترك وقعاَ لا يدركه أي كان, وأن فك الارتباط مع المكان وبالذات مسقط الراس لأمر مستحيل مع الأسوياء من الناس.
ودلالات الانتماء في رواية " لعنة الفراعنة" لا تخرج عن المعاني المتوارثة والمرتبطة بهذه القيمة والتي يستذكرها الراحلون عن المكان, والتي ترسم على مساحات الذكريات لديهم صور ومواقف تستحضر ليس فقط عند الأزمات, بل في كل المناسبات لتعزز الحدث بزمانه ومكانه أو تساعد على نسيانه عن طريق اسقاط حدث على حدث يكون له أثر بالغ على المشهد المعاش.
وقبل الخوض في تفاصيل دلالات مفردة الانتماء في لعنة الفراعنة, أستذكر ما كنت ذكرته في ذات مقالة بعنوان "الانتماء" أن أجمل صورة تجسد معنى الانتماء والارتباط بالمكان هي صورة لفلاح, يخلع نعليه ويلقي بهما جانباً حينما يبدأ العمل بالأرض, وكأن هذا الفلاح لا يريد أن تفصل بين قدميه وتراب الوطن قطعة من الجلد أو من البلاستيك تسمى حذاء, وأن ألذ لقمة يأكلها الفلاح تلك التي تعلق عليها ذرات من التراب أو على الأقل يبقى عبق التراب يدغدغ حاسة الشم لديه.
هذا الانتماء الذي يستحضره الدكتور حسين منصور العمري في مقارناته التي تتكاثر في مقاماته هو الانتماء المطلوب تضخيمه في الأنا الشاعرة والأنا الراوية والانا الكاتبة وغيرها, ليبقى الوطن مرتحلاً معنا أينما ارتحلنا, وهو نفسه الانتماء القابع بين خلايا الضمير, ليكون صفة من صفاته ينشط بنشاطه ويعتل إذا اعتل ويموت إذا مات. لكنه في لعنة الفراعنة يقظ متحفز, يفر من بين جنبيه كلما استدعي ليشهد على حدث أو مكان, أو يعقد مقارنة بين ما هو كائن وبين ما كان.
في "المقام الفيشاوي" يتصدر المشهد بيدر القمح والشعير الذي يشكل في ذهنية الراوي مركزاً للحياة, وهو هنا يعقد مقارنته الأولى بين المكان الذي يبعد آلاف الأميال وتظن تلك المرأة التي أوردها في هذا المقام أنها في مركز العالم وأن العالم كله يدور حول النقطة التي تتواجد فيه , بينما مركز العالم الحقيقي بالنسبة له هو قريته الصغيرة والبيدر وما كانت تمثله جدته التي كانت إن وقفت لا يجلس القوم حتى تجلس, وهنا تبرز علاقة الانتماء للمكان ولشخوصه التي تعطي الراوي مذاقاً خاصاً لا يشعر به إلا هو, والتي تعطي الطرف الآخر نفس الشعور.
وفي ذات المقام تختلط الفلسفة مع الواقع, والحقيقة مع الخيال, والحاضر مع الماضي, والديني مع الدنيوي, والحلم مع اليقظة, لتسهم في تشكيل بنية الرواية التي تحتاج في الحقيقة إلى تأمل وروية في قراءة ما بين سطورها, ويتضح لي من ذات السياق أن الأمر يتعدى السردية ويتجاوزها إلى مرحلة العصف الذهني المستفز لذهنية القارئ وقدرته على الربط والتحليل, وتظهر تلك الجمل مجبولة بالذكريات لتعود بالذاكرة إلى معاني الانتماء للأهل والقرية, وقد جاءت على شكل تساؤلات. "كيف تصبر على فراقهم, ألم تقل لك الذكريات أنها تشتاق إليك؟ ألم تعلم أن القمح لم يحصد بعد؟ ...هات يديك لعل الحياة تعود إلى الوادي, أتذكر قبر أبيك, وقبر أمك وقبور كل الصالحين؟ لماذا حرمتهم من دعواتك وتراتيلك في غسق الليل؟ أنا العذراء التي غابت في دهاليز الليل تبحث عن رائحة البحر فيك."
وفي مقام اللاشيء تأبى النفس كل شيء, وتغلق بوابة الذاكرة فترفض الموقف وترفض كل ما هو جديد, ترفض المرأة على فوهات السفينة, وترفض مشهد الجياع وهم يقضمون الخبز الجاف, وترفض مشهد الحفاة الذين لا يعرفون الأحذية,... "وتغوص ذاكرتي مع الأعماق من جديد وتعاود للطفولة من جديد, ذاكرتي لا تحب الغرق, لان جسدي يرفض العوم, الطريق التي تشقها السفينة أقرب إلى لوح الخشب فوق بيدر القمح والشعير... هناك أمسك بحبل البغل والحمار كي أقودهما فوق القش, وهنا أمسك بمقابض السفينة كي لا أسقط في البحر... ويتساءل قائلاً لا أدري لماذا كل شيء اربطه بالبيدر؟"
ولا أعتقد أن الإجابة فاتت الراوي بقدر ما اعتقد أنه جرعة زائدة من التركيز على معنى الارتباط بالأرض وبالبيدر, وأجده هنا ارتباط بنيوي تكويني نفسي انعكس بلحظة من اللاشعور على بنيوية الرواية ليجد الراوي نفسه تتحلل بمفردات روايته وأحداثها وينصهر ذات الحرف مع ذات الراوي ليشكلا بنية متماسكة تعطي الرواية زخماً وتحيل السرد إلى معنى, وله العذر في ذلك, فوقع المشي على القش أعمق من وقع المشي حتى على تلال من المال, وأعود هنا لأكرر أن هناك إحساس لا يعلمه إلا هو والضالعين في الانتماء.
ويتابع الدكتور العمري في المقام الأخير السرد المختلط بالذكرى من نافذته المطلة على ساحات الفندق, ورغم أنه يصف هنا كل شيء يبدو جميلاً, ويتحدث في هذا المقام عن ساحات الفندق والمباني الشاهقات والورود والأشجار والبركة, وعربات الخضار والفواكه, لكن الخوف مما هو جديد ما زال يعتريه, مما قد يؤثر على مجريات الحدث, فالطبول التي يسمعها هي ليست طبول الفرح بل هي طبول تحاول ان ترسم لحظات من الفرح, وكأنها تجتر الفرح اجتراراً, لكنه هنا يستذكر القادرية كما أسماها ووصية أمها له بأن يرعاها, فعاملها كولي لأمرها وهو الشعور بالمسؤولية تجاه من نحمل أمانة العناية بهم. وفي هذا المقام أيضاً, لم يستطع جمال المكان ولحظات الاستمتاع أن تصرف الذاكرة عن الذكريات وعن جماليات تعصف بالذهن لدرجة وصفه مدخل الفندق بأنه أقرب ما يكون إلى المنسف الأردني, فنجده يقول" وعلى أطراف بحر العرب, ...مدخل الفندق قريب إلى صحن المائدة, وأقرب ما يكون إلى المنسف الأردني."
تخيلوا كم هو كبير هذا المنسف في ذهنية ابن القرية الذي لم يكبر بقيمته ودلالاته فحسب, بل كبر بحجمه حتى بات يراه الراوي بحجم الصحن المطل على الفندق وشتان ما بين الصحنين, فذاك ارتسم في الذاكرة بحجم هذا الذي ارتسم على الأرض. إسقاطات صور على مكان هي تعبير عن التعلق ورمزية لذهنية تستحضر الماضي وتسقطه على الحاضر لتستريح, ومحاولة للاستئناس بما هو مريح للتغلب على الموقف المستجد.
وما بين التنقل في المقامات, نجد الراوي فيما أطلق عليه " مقام الجوع" الذي يخاطب به "خوفو" وكأن خوفو على قيد الحياة, وهنا عند باب الشمس يوصف المشهد, ويوصف الفتحة في هذا الهرم التي هي يحجم قبضة اليد, والتي لا تدخلها الشمس إلا مرة واحدة في السنة, يحاول الراوي تعليل وجود الفتحة هذه ليصل إن يد خوفو تظهر فيخر القوم ساجدين, هذه حسب المعتقد اليد التي تبعد الشمس عن الأرض وإلا سيجف النيل من حرارة الشمس, ومن بين الأساطير الفرعونية وقداسة الملك خوفو ينتقل إلى مقام العتمة حيث يعيد التشكل ويمشي في هذا المقام حسب التعليمات وإلا ستكون نهاية الحياة هنا, لصعوبة المكان وضيقه, وهنا يصير المستحيل ممكناً.
وتستمر حالة الخوف ومحاولة فلسفة الموقف وتصوير الواقع بحالة تستفز الشعور ومحاولة الثبات في " مقام العتمة, ومقام النبيذ ومقام إلكا" الاعجوبة كما يصفه الراوي, واستمرار الحديث عن " خوفو" ووصفه " كل شيء هنا قابل للموت أو الحياة" واختلاط المعتقد بالقناعات والاغراق بتفاصيلها ما بين ذكر الموت والحشرات ومحاولة الهروب من المواقف التي بدت قاسية جدا حد التفكير بالموتً, لتنتهي كل هذه المشاهد المرعبة بالعودة للقرية حيث الأم والأب واستذكار الرحيل والبيادر ولصوص الحي الذين يترقبون حصاد القمح والشعير.