عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحَرْ
أو شُرفتان راح ينأى عنهما القمرْ
من هنا كنّا قبل نحو عشرين عاما، من مطلع هذه اللوحة الفنيّة لرائد الشعر الحرّ وزعيمه، ابن قرية جيكور، بدر شاكر السيّاب، كنّا نعلن مع أصدقائنا الطلبة بدء رحلتنا مع الشعر والجمال والفكرة، وسيلٍ من الإبداع الشعريّ تزاحمت فيه الرموز والدلالات، ومنسوب حريّة غدت كأنّها نشيدٌ مطلقٌ للإنسانيّة.
نعم هنا كنّا نستنشق معاني القوميّة والوطنيّة، نفهم معنى أن يعشق الإنسان وطنه، بل معنى كيف يحيا حبّا فيه وكيف يموت لأجله.
هنا اصطحبَنا السيّابُ في كلّ عام إلى عالم الأسطورة، إلى حكايات التراث البعيد، حملنا معه على جناحين؛ جناح لغةٍ شهيّةٍ بما تحمله من رموز وعواطف وصور. وجناح موسيقى بما تمنحه للروح من جمال وفرح حيناً، وبكاء يغسل الخطايا حيناً آخر.
هنا تحاورنا، وقفنا على ما استخدمه السيّاب من جملٍ اسميّةٍ أفلحت بإخراجنا إلى عالم اللازمان، وكيف طوّع جمله الفعليّة حتى قوّضت بل بعثرت ما فينا من سكون.
كنّا وكنّا.... نعم كنّا نستحضر روحه ليصحبَنا معه إلى مجهول غابة نخله الجماليّة، لنعشق الموقف ونُنضج المبدأ ونُقدّر الثبات على الحقّ.
هنا أوقفنا السيّاب على حبّ الوطن وشاركناه الحزن على خيره المنهوب، فتحاورنا كيف أنّ الفساد السياسيّ يؤدي بالضرورة للفقر والجوع.
حقيقة، هنا كان عرضا مسرحيّا وسينمائيّا جميلا ... نعم هنا كان فضاء قصيدة بل ملحمة "أنشودة المطر".
في ذلك الزمن تناولنا أيضا أبا الفنون؛ المسرح، وعرفناه أدبا راقيا من خلال إبداعات "توفيق الحكيم" في مسرحيته "نحو حياة فضلى". وهناك اقتحمَنا عالم المقال فأبهرنا بالتراث الشعبيّ الفلسطينيّ، فعرّجنا على الأمثال الشعبيّة والأهازيج والأزياء التراثيّة، وغنّينا معه في مواسم الأعياد في فلسطين، وفهمنا علاقة هذا التراث بتوأمه الأردنيّ وأمّه العربيّة.
نبّهنا المقال لمخططات الكيان الصهيونيّ الذي يجهد لانتحال هذا الإرث، وحثّنا على ضرورة وأهميّة تدوينه وتوثيقه؛ لحمايته أولا، وليكوّن جسرا يعبره للأجيال اللاحقة.
ولم يبخل ذلك الزمن في إمتاعنا بالشعر العموديّ الغنائيّ، حين دعانا شاعرنا الكبير مصطفى وهبي التل "عرار" لحضور مجابهته مع فصيح اللغة وجمال موسقى الشعر في قصيدته "أمّوا عميد قريشٍ في أرومته"، فكان المشهد والمراد.
وقبل نحو اثنتي عشرة سنة (2008) أُعلن عن مشروعٍ حكوميّ جديدٍ لتطوير المناهج المدرسيّة، وحين رأينا مخرجاته وجدناها غيّرت في الشكل فقط، ولكن لا بأس، تعايشنا معها، إذ ظل صاحبنا السيّاب يمتّعنا بلوحة حُبّ الوطن والانتماء والحنين له، من خلال قصيدته "غريب على الخليج"، ودام يدفعنا لطرْق باب الحوارات حول جدليّة الغربة ما بين الجبرعلى البعد والرضى أو طيب الخاطر، وما بينهما من فرق عميق.
نعم شاهدنا كيف يقارع الحزنُ قلبه، فلا دموعه تقدر على إنقاصه أو إجلاء وَصَب غربته ولا استسلم لسجن وحشته؛ لأنه عشْقُ الوطن الأزلي، وحينها تعلمنا وتعلمنا الكثير، وكم من طلبة فهموا كيف يكون حبّ الوطن فكرا وسلوكا ونهجا.
وفي ذلك الزمن حضر أديب التجديد "ميخائيل نعيمة" من خلال نصّه "ذكريات الطفولة" فرسم لنا جزءا هامّا من واقع فلسطين التعليميّ والثقافيّ والحضاريّ في زمن بعيد خالٍ من جرائم سايكس بيكو وملحقاتها.
وأبى المتنبي إلا أن يحضر بلوحته الزاهية المغناة "أرق على أرق"، وما تضيفه من فروسيّة ورفعة للنفس والذات.
بعدها، دهمَنا "زكريا تامر" بمُرِّ الحقيقة، من خلال حضوره المميز بقصته "يا أيّها الكرز المنسي" حين لخصّ لنا تاريخ النضال العربيّ التحرريّ وحلم الأمة وما تعرض له هذا الحلم والنضال من نكسات، مصرّا على تعليمنا درسا في معاني الانتماء من خلال الإخلاص للوطن وقضاياه، درسا في قيم تبنّي احتياجات الفقراء والوفاء للمبادئ والقواعد الأخلاقيّة.
ولا ننسى فخر تاريخنا البعيد، ابن خلدون ومقدمته النجيبة، حيث قدِم في كلّ عام مُعلناً ومؤكدا على أنّ الظلم حتما يؤدي إلى خراب العمران، فلا ازدهار ونهوض للمجتمعات بوجود الظلم والفساد.
وقبل نحو ثلاث سنين (2017) جاءت النهضة الثالثة معلنة عن تطوير جديد للمناهج، فيه الخلاص من التلقين والسطحيّة والحشو وربما التخلف في بعضها.
وما إن استقرّت رحلتهم التطويريّة هذه واكتملت حتى دفعوا إلينا بنسخة كتاب اللغة العربية للتوجيهي، فرِحنا، ورُحنا نتفحّصها؛ كي نبدأ بالمرحلة العمليّة للتعامل مع مخرجاتها المطوّرة، حينها صُدمنا لمّا وجدناها تُعيد نفيَ شاعرنا السيّاب من وطن الشعر وتُلقي بمفهوم الشعر الحرّ خارج المنهاج، وتستبدل عمق صوره الشعريّة بسطحيّة تثير الضجر وتَهازؤ الطلبة وتقتل الحوار وتكبح التفكير وإمعان الخيال، ولا تضيف لنا إلا التسطيح والشُغور أو اللاشيئ.
هي مخرجات خاصمت "الحكيم" وشيطنت المسرح، هل تصدقون أننا نخاصم المسرح في عصر النهضة الأردنيّة؟! صدّقوا أرجوكم ولا تنسوا كيف كان وماذا قدّم المسرح المدرسيّ قديما.
نعم لقد جافت مناهجنا فنّ القصة القصيرة الهادفة المشوقة، فعاقبت "زكريا تامر" على صدقه، كما جافت نصوص فنّ السيّر، فلا "نُعيمة" حضر بنصّ عميق ولا "إحسان عباس" نقلنا للوحة مرسوم فيها ما نجهله في ماضينا.
مخرجات أعادت ظلم ابن خلدون وأزاحت فلسفته وعلومه، واستكثرت على الجيل فهم آثار الفساد وكيف يكون العمران.
مخرجات استبدلت رحلتنا في التراث الفلسطيني وأخطار العدو الصهيوني بنصّ علمي جافّ عن مرض الحساسيّة، رُحّل إلينا من كتب العلوم والطب، أرجوكم اقرؤوه ودلونا ما علاقته باللغة العربية وآدابها؟!
صحيح، احتاجت إجراءات الوقاية من فيروس كورونا لنمط التعليم عن بُعد وأوجدته بحدّ يساوي إمكاناتنا، وهذا جيد، في حين تكمن المشكلة في حقيقة أنّها لو لم توجده ربما لما تغير شيء، فلا كان غاب عن طلبتنا تعليم التفكير والمنطق والتحليل والفلسفة، ولا توارى عنهم إثراء قيم الوطنيّة والانتماء، ولا خسروا تهذيب ذائقتهم الأدبيّة، فنصوص التطوير الثالث تقدم شبه اللاشيء وتنفّر الطلبة ومعلميهم معا.
واقعيا، منذ سنين ونحن نُعلّم عن بُعد وعن جفا ومقت، منذ أن هجرت مناهجنا العقل والذوق وصارت حبيسة عقول القائمين عليها، والذين في أغلبهم جاؤوا بالمحسوبيّة التي غزت إدارات التعليم كما اجتاحت بقيّة مؤسساتنا لشديد الحزن والأسف.
لذلك فإنّ ما نحتاجه هو التعليم عن حُبّ وودٍّ، بعمقه ومعناه، فتعليم ساعة لمناهج فيها حياة وفكر وعمق وذوق، يحبّها الطلبة لهوَ أفضل من تعليم شهور لمناهج سطحيّة جامدة يبغضونها.
فهل بعد هذا التطوير وهذه النهضة ينطبق على حالتنا صواب المطالبة المعاكسة، فندعو إلى تأخيرمناهجنا لا تطويرها؟!!
علّنا نستعيدها، فنتعلم شيئا من لغتنا وأدبنا العربيّ الهادف..