لعل مصطلح "المساءلة"من أكثر المصطلحات استخداما في الأردن من قبل كتاب المقالات، ومقدمي البرامج الإذاعية والتلفزيونية، والسياسيين، والمواطنين بشكل عام. لكن المؤسف حقا هو أن "المساءلة" من أقل المصطلحات ممارسة وتطبيقا من قبل معظم الجهات آنفة الذكر.
المساءلة من الناحيتين الاصطلاحية والإجرائية تعني قيام شخص أو جهة أو جهاز أو حكومة بتحمل تبعات ونتائج تصرف أو إجراء أو قرار تسبب بالإضرار بمصالح جهة أخرى التي قد تكون فردا أو جماعة أو جهة أو مصلحة عامة. يخلط البعض بين المساءلة والفساد البواح مثل سرقة المال العام والرشوة وتضارب المصالح (Conflict of Interests) والحقيقة أن هذه الأمور عبارة عن سلوكيات جرمية وجنائية عرفها القانون، وحدد طبيعتها وعقوباتها.
المساءلة شيء ربما مختلف من حيث أنها قد لا تفضي دوما إلى فساد كونها معنية بالوقوف على طبيعة ومقاصد وغايات التصرف موضع المساءلة، فعلى سبيل المثال بعد حشد الإدعاء العام لكافة الشواهد والحيثيات للقضية المشتبه بها ومآلاتها وإجراءاتها، فإن المساءلة قد تفضي إلى البراءة أو الإدانة، وعليه فان المساءلة ليست بالضرورة مقتصرة على شبهات الفساد، وإنما قد تتعلق بالتقصير في أداء المهمة، أو عدم اتخاذ الإجراءات الضرورية، أو عدم التعامل مع أزمة بما تستحق، أو السكوت على مخالفة، أو الإدلاء بالتصريحات والمعلومات المضللة. في فرنسا على سبيل المثال أعلن المدعي العام في باريس عن فتح تحقيق مبدئي حول إدارةالحكومة لأزمة كورونا، حيث اتهم بعض المسؤولين بارتكاب "جرائم القتل غير العمد" أو "تعريض حياة الآخرين للخطر".
هذه المقدمة للمقالة قصد منها أن نبين أن مساءلة الموظف العام عن أداءه وإنجازاته قضية مشروعة ومطلوبة، إذ أن جهات متعددة تستفيد من هذه المساءلة وفي مقدمتها الشخص الأول في المؤسسة ومن يخلفه في الموقع، والجهات الرقابية، والعاملين في المؤسسة والوطن بشكل عام. خلال أربعون عاما أمضيتها في الخدمة العامة والجامعات سمعت مرات ومرات من الإدارات الجديدة للجامعات، وهذا ينطبق على الوزارات أيضا، أن هذه الإدارة ورثت تركة ثقيلة من الإدارة السابقة" ومن باب المجاملة يقول المهنئين للقادم الجديد للموقع "أعانكم الله على هذه التركة". من يا ترى يحدد إن كانت التركة ثقيلة أم خفيفة، مشرفة أم غير مشرفة نزيهة أم غير نزيهة؟ إنه القانون والمساءلة والمراجعة والأدلة والحجج والأرقام والبيانات وليس "التغويش"ورفع الصوت والعنجهية والتلويح بالفزعات التي تكشف ضعف المسؤول وهشاشة قدراته.
من التقاليد والأعراف الراسخة في القطاع الخاص والشركات والبنوك أنه عندما يتغير الأشخاص الرئيسيين (key Managers) تجرى عملية استلام وتسليم (Hand over)، وتتم عملية مراجعة مالية من جهة متخصصة للوقوف على الوضع المالي والأصول والذمم والاستحقاقات وغير ذلك.
هذا الوضع مفيد للإدارة المنتهية ولايتها، حيث تبرئ ذمتها ومسؤوليتها لغاية انتهاء مهامها، وهو أيضا مفيد للإدارة الجديدة لتتمكن من بيان إنجازاتها وإضافاتها مستقبلا، وهو أيضا مهم للمؤسسة ذاتها لتتمكن من تحقيق التراكمية والاستمرارية في أدائها، وهو أيضا مهم للمواطنين ومن لهم مصالح مع المؤسسة حيث تؤدي المساءلة لبناء أجواء من الثقة بالمؤسسة والقائمين عليها.
نقول ما قلنا عن المساءلة ونحن مقبلين على ملئ بعض الشواغر في الإدارات الحكومية والإدارات الجامعية وبعض المؤسسات العامة، فيا ترى ألا يستاهل الأمر عمليات مؤسسية فيها استلام وتسليم وفق تقارير مالية وإدارية من جهات متخصصة بدلا من التصريحات المتعجلة للإدارات المنتهية ولايتها والإدارات الجديدة؟ ألا يستأهل الأمر أن نطبق ما تفعله بعض المؤسسات في القطاع الخاص والشركات الهندسية في تصوير الموقع قبل البدء بالعمل من أجل وضع الخطط المستقبلية وتحديد حجم الانجاز عن طريق المقارنة بين وضع المؤسسة عند الاستلام من الإدارة القديمة وبين الوضع عن انتهاء مهام الإدارة الجديدة!!.
تقييم أداء الإدارات لا يستوي ولا يتم عبر التهويش في الصحف ووسائط التواصل الاجتماعي...تقييم الأداء لرئيس جامعة لا يتم من قبل موظف هنا وعامل هناك ينظر إلى العالم كله ويصدر أحكامه في ضوء شعوره بأنه أخذ أم لم يأخذ هذه الزيادة أو ذلك الترفيع... ومع أن الرضا الوظيفي للموظفين مؤشر من مؤشرات الأداء فإن تقييم أداء رئيس جامعة لا يتم من خلال موظف ليشرع في استصدار أحكام على سياسات واستراتيجيات تحتاج إلى متخصصين لدراستها ومراجعتها والحكم عليها.
المساءلة ظاهرة حضارية جدا وتعكس مستوى الفكر والتقدم في المجتمع. رؤساء جامعاتنا متوقع، لا بل مطلوب منهم، أن يكونوا علميين وموضوعيين في أفكارهم، ومطلوب منهم أن يتقبلوا المساءلة بدلا من اللجوء للفزعات.
رئيس الجامعة متوقع منه أن يكون مفكرا عميقا بعيد النظر يرى ربما ما لا يراه المدراء والبيروقراطيين... رئيس الجامعة ليس مدير عام أو أمين عام يسير الأعمال ويوقع البريد اليومي فهذه أعمال لا تحتاج لا لشهادة دكتوراه ولا لرتبة الأستاذية... رئيس الجامعة لمن يعرف قيمة الموقع ويقدر أهمية الجامعة للوطن والتنمية والمجتمع ليس فقط معول بناء للوطن بل هو قائد للمعمل الذي يصنع بناة الوطن ومعاوله....