الدكتور عديل الشرمان - عناوين تطالعك ( أب يطلق النار على ابنه)، (هشّم والدها رأسها بحجر)، (طعنها عدة طعنات حتى فارقت الحياة)، (تعرضت للتحرش من قبل والدها)، تتناقل وسائل الإعلام وخاصة الالكترونية منها مثل هذه الأخبار على نطاق واسع، ويتم تداولها في محيط الأسرة، في الوقت الذي يجلس فيه الابن مستمعا، أو البنت الطفلة البريئة التي تسمع بإنصات إلى مثل هذه الأخبار وهي تنظر إلى والدها الذي تعتبره مثلها وقدوتها وبه تقرّ عينها، تنظر إليه بطرف العين مستغربة ومندهشة، يساورها الشك والخوف، وسوء الظن أحيانا، ويذهب بها الخيال بعيدا لتتخيل نفسها في يوم من الأيام ضحية على يد أحب وأقرب الناس إلى قلبها.
وفي المقابل يذهب البعض من المحتجين على ما يحدث من قضايا من هذا النوع إلى صب الزيت على النار برفع شعارات بعضها في اطار الممارسة الصحيحة لحرية التعبير، وبعضها الآخر شعارات هدّامة وغير مسؤولة (المجتمع الأبوي قاتل!!)، (أبوي مش مسؤول عن شرفي!!)، (أنا ولية أمري)، وهي شعارات تدعو إلى التحرر من كل وسائل الضبط الأسري، وتطالب بالانفلات، ولا يمكن بالنظر إلى مضمونها تبرئتها من العبثية والعشوائية، ويسعون معتقدين على نحو خاطئ أنهم بذلك يمارسون الديمقراطية في التعبير عن آرائهم.
ذات يوم اتصلت احدى الزميلات وهي معدة ومقدمة برنامج يتناول قضايا أسرية في واحدة من المحطات التلفزيونية المحلية تطلب تسهيل مهمتها من خلال الادارات المعنية في الأمن العام لإعداد حلقة تلفزيونية حول اعتداء الآباء على الأبناء جنسيا، الطلب مثير للدهشة، ومستهجن ومستغرب، وعند سؤالها عن الهدف من إعداد حلقة من هذا النوع، وما الذي تريد قوله وايصاله للمشاهد، وهل نحن أمام ظاهرة تستدعي التدخل الإعلامي أم نحن أمام حالات فردية، وهل تناول هذا الموضوع إعلاميا له آثار ايجابية تفوق السلبية، الرد كان صادما عندما أجابت بأن الموضوع شيّق ومثير ولم يسبق طرحه.
وفي سياق آخر قريب، وقبل سنوات اتصل أحد الزملاء من قسم الأخبار المحلية في قناة تلفزيونية أخرى ليطلب تسهيل مهمته في إعداد تقرير إخباري عن (الكلاب الضالة) في المنطقة الواقعة ضمن اختصاص شرطة البادية، وعند سؤاله عن الغرض من التقرير والرسالة التي يحملها للمشاهد أجاب -على نحو مضحك ومحزن بنفس الوقت- بأن الموضوع غريب وطريف ومثير.
لا تعرف أحيانا كيف يفكر البعض من ممارسي المهنة، وبطبيعة الحال نحن نتحدث عن وسائل إعلام محلية تعمل في إطار المسؤولية الاجتماعية، وليس من مصلحتها نشر العفن في المجتمع، ولمصلحة من نشر مثل هذه الأخبار، وهل الإثارة هي هدفنا من الرسالة الإعلامية.
ربما لا يدرك البعض ممن يسارعون بنشر مثل هذه الأخبار أن لها القدرة على هدم الثقة بين الابن وأبيه، وبين الأخ وأخته، وباستطاعتها أن تفكك أسرا مترابطة، وأنها تفقدنا الثقة بقيمنا وبمنظومتنا الأخلاقية والدينية، وتترك آثارا سلبية عميقة في النفوس والعقول، وهذا يدعو إلى مراجعة شاملة لسياساتنا الإعلامية، وتبني نهجا يقوم على المهنية، وإعداد جيل إعلامي قادر على الاضطلاع بمسؤولياته بما يحقق مصالح المجتمع ويلبي احتياجاته، وخلق قيادات إعلامية وطنية قادرة على قيادة مسيرة العمل الإعلامي بكفاءة واحتراف بعيداً عن المصالح والحسابات الضيقة والمنافع الشخصية والاجندات الخاصة.
من الواضح أن لدى البعض مشكلة في المعالجة الإعلامية لأخبار الجريمة على وجه الخصوص، وفي القدرة على تحديد الأهداف من العمل الإعلامي بشكل عام، لهذا تجدهم يسيرون في طرق لا يعرفون لها نهايات، ولا تعدو كونها تعبئة مساحات إعلامية، ويسعون من خلال ذلك لإثبات ذاتهم وحضورهم وتحقيق الشهرة الإعلامية، مستبدلين العمل الإعلامي في إطار المسؤولية الأخلاقية بالعمل الفوضوي الارتجالي لصالح الأنانية الضيقة.
ربما لا يدرك البعض من المعنيين، أو أنهم لا يعنيهم الإدراك، أن الإعلام هو أحد المساهمين الأساسيين في تحصين الأجيال بالفكر الحضاري والأخلاقي وتسليحهم بقيم المواطنة الصالحة، وربما لم يجدوا من يقودهم إلى الطريقة التي يمكن من خلالها تأصيل أسس ومبادئ الإعلام تأصيلا وطنيا وأخلاقيا ودينيا.