الملك بين الحويطات... الرمزية والدلالات د.بسام البطوش عبر تسعين عاما من عمر الدولة الأردنية شهدت البلاد تحولات سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية هامة تركت بصماتها على المشهد الأردني ،لكن الثوابت الرواسي بقيت هي ذاتها ،والمنطلقات والبدايات بقيت واضحة،والانتماء الفطري الأصيل غير المكلف ظلت له خوابيه العامرة،و منابعه الثرة،وأهله أهل الصدق ،الذين ما كان فداء الوطن والملكية الهاشمية في عرفهم كلاما مبددا بل فعلا مجسدا ...كانت زيارة جلالة الملك لديرة الحويطات عابقة بالرمزية والدلالات ،وكان التاريخ حاضرا ، بإلهامه ومعانيه ومعطياته ،وباستذكار الدور المشرف لقبيلة الحويطات في صياغة تاريخ الأردن المعاصر.وكانت الرمزية طاغية في مشهد استقبال الفرسان من "خوات صالحه" للملك الهاشمي الرابع بحداء الوفاء ذاته الذي استقبل به الأجداد جيوش الثورة العربية بقيادة فيصل الأول،وما كان الوفاء اللامع في عيون (خوات صالحه) يوم أمس الا امتدادا لنهر من الوفاء والصدق استقبلوا به الملك الهاشمي الأول عبدالله الأول، عندما التفوا من حوله ومن حول مشروع تأسيس الدولة الأردنية المعاصرة حبا وكرامة وصدقا ووعيا وانقاذا لهذا الحمى العربي من براثن الصهيونية وتخرصات وعد بلفور وأوهام صموئيل ووايزمن،حالهم كحال العشائر الأردنية كلها التي شكلت منذ التأسيس الأول ومنذ اجتماع زعماء عشائر الشمال في أم قيس العمود الفقري للدولة والمجتمع، وراحت تسهم في بلورة وطن الرؤية والمشروع والرسالة . كانت اللحظة التأسيسية الأولى للدولة الأردنية عروبية إسلامية مفعمة بالتنوع الاجتماعي المستند على بنية اجتماعية ضاربة الجذور في تاريخ البلاد عمادها القبائل والعشائر الأردنية الأصيلة التي ما وجدت ضيرا في الانفتاح والاستيعاب والهضم والدمج والتنوع والتكامل ، وأبدت وعيا سياسيا عز نظيره يبرز في الخطاب السياسي المعبر عن الحراك الوطني العام الذي كانت تقوده الزعامات العشائرية،وتشكل العشائر بنيته الحقيقية؛فما كانت مواقف العشائر الأردنية تتشكل سوى في سياقات من الوعي الاستقلالي العروبي الرافض للانتداب والصهيونية،والمتطلع دوما للحرية والعدالة والوحدة . وفي حضرة "الحويطات" يبرز الدور الوطني المجيد للعشائر في تاريخ الأردن والأمة،ولعل حكاية الحويطات مع المجد والفروسية نجدها مجسدة في عدد من رجالاتها ،بدءا من الشيخ عوده أبو تايه وأخوته ممن تشرفوا بحمل راية الثورة العربية المعبرة عن أشواق العرب للحرية والوحدة والاستقلال ،الى الشيخ حمد بن جازي ودوره الوطني المشهود في الحركة الوطنية الأردنية ودعم النضال الفلسطيني ،إلى الشيخ هارون الجازي قائد سرية متطوعي أبناء الحويطات في الدفاع عن القدس في معركة القسطل وغيرها من معارك القدس ضد العصابات الصهيونية،إلى مشهور حديثه الجازي وكاسب صفوق الجازي أبرز أبطال معركة الكرامة ،إلى رجال وفرسان كثر يزهو وجه الزمان الأردني بعطر ذكراهم كالشيخ زعل أبو تايه،والشيخ سالم عوده بن نجاد،والشيخ محمد عوده أبو تايه،والشيخ فيصل الجازي، والشيخ خلف بن نوير ،والشيخ علاوي جراد، وقائمة الشرف والفروسية والعطاء تطول وتمتد عبر أزمان وأجيال من الأبناء والأحفاد رقبناهم فرسانا يعلمون الدنيا كلها معاني الوفاء والولاء،وهم يلتفون من حول الملك الهاشمي يبادلونه حبا بحب ،ويجددون في حضرته عهد البيعة والوفاء،والعزم على مواصلة مسيرة الكفاح الأردنية،والمضي في تدعيم مسيرة الاصلاح،وترسيخ دعائم دولة الحرية والعدالة والمساواة،والإصرار على السير أشواطا واسعة في مسيرة الاصلاح والتحديث برؤية وطنية واضحة،بعيدا عن منطق الاستقواء وحرق المراحل أو القفز في المجهول . هذه هي العشائر الأردنية، وهؤلاء هم رجالاتها ، يظهرون وقت الشدة،ويتوارون في لحظة الرخاء، ولن تضير عشائرنا حملات التشويه والاستهداف المبرمجة التي دأب بعض تجار الشعارات على الاسترزاق بها ،فالقناعة أكيدة لدى قطاع واسع من الأردنيين بأن هناك جهدا منظما ظهر في السنوات الماضية للانتقاص من دور العشائر والعمل على تهميشها . وبذلت النيوليبرالية التافهة قصارى جهدها للانقضاض على شبكة الولاءات الاستراتيجية التي نهضت عليها الدولة الأردنية ،جاء هذا مترافقا مع جهد اعلامي وثقافي مدروس سعيا لخلق رأي عام معاد للعشائر بوصفها ركيزة أساسية من ركائز الدولة الأردنية،وساهمت الأحزاب الأيديولوجية في الهجمة على العشائر لشعورها الأكيد بأنها غريبة في الأوساط العشائرية ذات الولاء التقليدي الراسخ للملكية الهاشمية،ويأتي هذا كله في سياق هجمة غير بريئة على فكرة العشائرية،تتخفى وراء لافتات الدفاع عن الأمن والاستقرار وسيادة القانون والديموقراطية وحقوق الإنسان والمواطنة والإصلاح والتحديث الاجتماعي- السياسي،وأخيرا ،جاء الزمن الثوري ليتخفى هؤلاء خلف ما يسمى الدفاع عن صورة الأردنيين في حين يمعنون في تشويها والتجني عليها،هذه المرة تحت شعار مزيف هو مقاومة "البلطجة". جاء التوجيه الملكي من ديرة الحويطات بضرورة تنمية البادية الأردنية وتوزيع مكاسب التنمية ،ليعيدنا جميعا الى مربع الايمان بأهمية بلورة رؤية جديدة للدولة الأردنية في تعاملها مع الأطراف عامة والبوادي منها على وجه الخصوص، فالعشائر عصفت بها تحولات كبيرة،في الزمن النيوليبرالي،وتراكمت مشكلاتها و أسباب معاناتها ، وشعرت الزعامات العشائرية التاريخية بأن الزمن الليبرالي الطاريء يحاول تجاهلها،بل إن موجة الراسملية المتوحشة تحاول تهميشها ! وعليه،أصبحت الحاجة ملحة لفتح ملف الشؤون العشائرية، والعمل الجاد على تصويب أوضاعها،والاعتناء بقضاياها،وملامسة همومها، وتطوير الخدمات والبنى التحتية في مناطقها،وتوفير المشاريع القادرة على تشغيل أبناءها وخدمتهم ، والأعتناء بالطاقات الشبابية التي تزخر بها العشائر،لئلا يتحول هؤلاء الشباب فريسة للبطالة والتعصب والعنف والغلو والضياع .وفي اللحظة الراهنة يتوجب العمل على نزع موجبات الاحباط وبما يكفل الحيلولة دون تحويل العشائر وشبابها إلى معين يرفد الحركات الاحتجاجية بالقوى البشرية ،فلا حاجة بنا لدفع الناس الأنقياء الأوفياء للسير في ركب تجار الأزمات والشعارات . ولا مصلحة لنا في إفساح المجال أمام القوى ذات الأجندات المعروفة للتلطي خلف أسم هذا الشاب أو ذاك ،أو خلف هذا الرمز أو ذاك من أبناء العشائر ،ولعله من الضروري أن تكون القوى العشائرية حاضرة في رسم ملامح المشهد الإصلاحي القادم،ومن الضروري التوقف مطولا عند شكل ومضمون قانون الانتخابات النيابية القادم وأثره على الجغرافيا والديمغرافيا الأردنية بعمومها.