الدكتور عديل الشرمان - وقت قصير قد يفصل بين تصريحات رسمية متسرعة ومتضاربة حال وقوع الحدث، تتناقل معظم وسائل الإعلام التصريح الأول، وهذا أمر طبيعي باعتبار أن وسائل الإعلام في تلك المرحلة الزمنية من وقوع الحدث في حالة تعطش وتلهف للمعلومة، وهي تسابق الزمن لتحقيق السبق الذي يشبع رغباتها، ولعل السبب في وقوع أي حدث هو أهم عناصر الخبر فيه، وهو ما تبحث عنه معظم وسائل الإعلام لإشباع رغبات جمهورها، وغالبا ما ينصرف جمهور وسائل الإعلام عن متابعة الخبر بعد معرفة سبب وقوعه والآثار المترتبة عليه.
لماذا يحصل الاختلاف بين التصريحات الإعلامية الصادرة عن الناطقين الاعلاميين عند وقوع الأحداث المختلفة، وهل يعد هذا الاختلاف أمرا مألوفا في مثل هذه الظروف، أم أن للتصريح الأول الذي يصر عن الجهات الرسمية مبرراته الإعلامية، وهل هو حالة استباقية لقطع الطريق على أية تأويلات تذهب بعيدا في تفسير ما يحدث، وهل تكفي عبارة (التحقيقات الأولية) التي عادة ما تستخدم في التصريحات الرسمية لتبرير الاختلاف بين التصريحات المتضاربة، وهل يعتبر الاختلاف بينها مؤشرا على ضعف التنسيق بين الأجهزة المعنية، أم أنه اجتهاد وتخمين من الناطق الاعلامي، وإذا كان كذلك فهل يحق للمتحدث الرسمي (الإعلامي) الاجتهاد والتخمين لحين صدور نتائج التحقيقات النهائية، وما هي حدود حرية المتحدث الرسمي في التصريحات الإعلامية، وهل عمل الإعلام مبني على الشك والتخمين كما هو عمل الشرطة عند التحقيق في الجرائم لحين التثبت من الحقيقة واختبار صحة الفرضيات، وفي ذات السياق يثور تساؤل رئيس، هل المتحدث الرسمي تقتضي وظيفته وطبيعة عمله التحدث دائما لحساب مؤسسته.
فلسفة ومعاني والغاز ومدلولات كبيرة تحملها الإجابة على التساؤلات السابقة، ومن خلال الاجابة عليها يمكن حل لغز طبيعة العمل الإعلامي للمتحدث الرسمي، ولو أجاب أي من العاملين في المجال الإعلامي على هذه التساؤلات على نحو مهني فإنه يستحق وصفه بالإعلامي، وغير ذلك لا يخرج عن كونه ممارس للمهنة دون معرفة بفنونها وفلسفتها في كافة الأطر، وعلى وجه الخصوص في الإطار السياسي على اعتبار أن العمل الإعلامي هو ممارسة لفكر سياسي، والإعلام والسياسة هما وجهان لعملة واحدة.
إن دور الناطق الإعلامي لأي مؤسسة أشبه بدور المحامي الذكي والذي يدافع عن المؤسسة لدفع الظلم وسوء الفهم والظن الذي قد يقع عليها بسبب الشطط الذي تمارسه بعض وسائل الإعلام، لكن بشرط أن يكون مطمئنا إلى أن مؤسسته على حق، وأنه يقول الصدق، وهذا هو الشرط الأساسي لقيامه بهذا الواجب على هذا النحو، وبهذا يكون قد حقق شرط الشفافية والموضوعية في ممارسته لعمله، وأصبح جزء من منظومة إعلامية مهنية تتمتع بالمصداقية وتفهم معنى الحرية ومدلولاتها، مما يوصله إلى حالة من التكامل بين الحرية والمسؤولية، وهما الركيزتان الأساسيتان لممارسة العمل الإعلامي.
الناطق الإعلامي عند وقوع الحدث قد يجد نفسه بين فكي كماشة، أو بين المطرقة والسندان، وتحت ضغط وسائل الإعلام، لكنه لا يصرح إلا بما يتوفر لديه من معلومات مؤكدة، ولا يمنعه من التصريح شح المعلومات المتوفرة لديه، وانتظار نتائج التحقيقات والتي قد تأخذ وقتا طويلا، بل على العكس فإن ظهوره بتصريح أولي على نحو ذكي ومهني يبدد الشائعات والتأويل، ويقلل من فرص تناول المعلومات المغلوطة والشائعات، وفي ذات الوقت فإن المتحدث الرسمي يجب أن يقول الحقيقة وليس مطلوبا منه بالضرورة أن يقولها بالكامل.
لا يتمتع المتحدث الرسمي في التصريحات التي تحمل بين ثناياها قرارات مصيرية أو يترتب عليها التزامات حكومية أية مساحات للحرية في التخمين أو التوقع، أما في بعض المسائل المتصلة بالشأن العام فيمكن للمتحدث الرسمي التخمين في حدود ضيقة، لكن ليس بوسعه التوقع، لأن التوقع متصل أو مرتبط بمعرفة الغيب، بينما التخمين يقوم على الحدس الشخصي للإنسان، وهو ما يُطلق عليه أحيانا الفراسة التي تمكن الإنسان من توقع بعض الأشياء بناءً على خبراته وتجاربه الشخصية، وقد يحدث ذلك الأمر موضوع التخمين وقد لا يحدث.
في المقابل فإن الشك والتخمين الذي ينتاب وسائل الإعلام وهي تغطي أخبار الحوادث حالة مشروعة، وهي حالة مؤقته، ووسيلة وليست غاية هدفها الوصول إلى الحقيقة والتيقن منها، والصحفي في موقع الحدث لا يبيح بشكه، إلا بعد أن يقترب من الحقيقة، وإذا اقترب من الحقيقة قد يعلن شكه على أنه من باب التخمينات، بعكس الناطق الإعلامي أو المتحدث الرسمي الذي لا يقول إلا الحقيقة المبنية على الدلائل والبراهين ونتائج التحقيقات النهائية.
التصريحات الإعلامية التي تبنى على سير التحقيقات الأولية تبقى مجرد احتمالات وفرضيات قد يثبت صحتها وقد لا يثبت، وقد تقترب من الحقيقة وقد لا تلامسها، لذلك التحقيقات الأولية لا تصلح دائما كأساس للتصريحات الإعلامية الجازمة والمؤكدة، في حين تكون البيانات المستندة إلى نتائج التحقيقات النهائية مفصّلة وموضّحة للحقيقة، وتجيب على الأسئلة المتعلقة بالحادث إجابة لا تحتمل التأويل.