بعد ما يقرب من ستة عقود من تشكيل حكومة حزبية في الأردن عام 1956، عقب انتخابات نيابية كلف سليمان النابلسي رئيس حزب الأغلبية حينها بتشكيل الحكومة،
يراد لنا اليوم حتى في ظل التطور الإداري والسياسي الإنساني أن نعود إلى عهد ما قبل الدولة، الذي كان يقتضيه الفراغ السياسي المؤقت في المنطقة، في بدايات القرن العشرين , والذي جعل القبيلة هي المرجعية في إدارة شؤون العشائر المنضوية تحت لوائها.
وإن كانت هذه الحالة العشائرية متقدمة في حينه، وقامت بالواجب الوطني وليس المحلي فقط، ومدت يدها إلى الفلسطينيين والجزائريين والسوريين وغيرهم، ووقفت بالمال والرجال والسلاح مع قضايا امتها، وعقدت المؤتمرات الوطنية المشرفة في المنعطفات الحادة منذ عام 1920.
ورغم تطبيق الأحكام العرفية وحل الأحزاب السياسية عام 1957 وملاحقة الحزبيين، إلا ان استدارة سياسية كانت في عام 1989 على أثر هبة نيسان باتجاه الدولة المدنية الديمقراطية، والشروع بتطبيق نص المادة الأولى في الدستور (أن نظام الحكم نيابي ملكي وراثي)، أنجزت لجنة الميثاق الوطني ميثاقاً يتضمن قواعد أساسية تبنى عليها الحياة الديمقراطية المنتظرة.
ورجحت الكفة لصالح الحياة الحزبية والديمقراطية، حيث شرع أيضاً قانون جديد للأحزاب السياسية عام 1992 أعاد الحياة الحزبية المحظورة خلال ما يقرب من أربعين عاماً، ورجع المفصولون إلى أعمالهم، وأعيدت آلاف جوازات السفر المصادرة، ورفع حظر العودة للبلاد والسفر للعديد من الشخصيات السياسية والحزبية التي كانت ممنوعة قبل ذلك ، وكفت اليد الأمنية عن التدخل في القرارات الإدارية.
إلا أن هذه الحالة لم تدم طويلاً لأسباب عديدة منها -اتفاقية السلام مع العدو الصهيوني، فحصلت انتكاسة كبيرة، وبدلاً من نمو الحياة الديمقراطية تم من جديد استدعاء العشيرة والقبيلة والاستعانة بها لسحب الدسم من المنجز الديمقراطي الجديد، وتشريع قانون انتخاب جديد (الصوت الواحد المجزوء) الذي يُمكّن من عودة الاعتبارات العشائرية في الدولة على حساب الحياة الديمقراطية المدنية و كذلك الواجهات المصنوعة التي تتصدر المخيمات، ووضعتا بمواجهة الإصلاح السياسي , ليتم الاعتذار بها وتحميلها المسؤولية في تعثر النمو الديمقراطي أمام الشعب، وبغير خلافا للواقع والحقيقة.
وقد تضاربت التصريحات للتعبير عن هذه الحالة الهجينة الجديدة "على الأقل" فلا نحن في نظام عشائري في تكوين السلطة وإدارة الدولة لأنها حالة غادرناها، ولا نحن في دولة ديمقراطية تعتبر المواطنة هي الأساس، والدستور الذي يبنيه الشعب "كل الشعب" هو العقد الاجتماعي؛ وهو المرجعية وقوانين يسنُّها ممثلو الشعب في مجلس النواب.
فمن قائل:- أن العشائر او ( العشائرية)هي سبب تعثر الإصلاح السياسي،
ويقول هو نفسه مرة أخرى –توضيحاً واعتذاراً:- ان العشائر هي أهم مؤسسات الدولة وخرجت منها الزعامات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وهو قول منسوب لسياسي كبير ومن قبيلة كبيرة مقدرة ويرأس أكبر مؤسسة تشريعية، وتقلب في مختلف المواقع الرسمية،
ويتواءم هذا مع التركيز على تفريغ العملية الديمقراطية من محتواها، وتفريغ مجلس النواب (الأمة) من دوره الرقابي والتشريعي ليكون خدمياً في أحسن أحواله، مما يستدعي نواباً يعدون بتلبية حاجات ناخبيهم، من هنا استخدم عنوان العشيرة والجهة في إدارة الدولة (ظاهرياً) على حساب البرنامج السياسي والاقتصادي والاجتماعي العام، حتى في الركن الأهم والذي عنوانه قانون الانتخاب والانتخابات البرامجية الحزبية على مستوى الوطن وليس الحارة والعائلة والعشيرة والمال، للحيلولة دون التقدم في المسار الديمقراطي وتحميل العشائر المسؤولية.
ومن الوسائل المستخدمة لتعميق هذه الحالة ما يلي:-
1. تقسيم العشائر إلى بدو وحضر، مع أنَّ الباحث لا يستطيع أن يجد أسسا لهذا التمييز في العملية الانتخابية، فللبدو دوائر انتخابية ثلاث في الشمال والوسط والجنوب، هذا لهم وليس لغيرهم من العشائر والقبائل المجاورة لهم والمتداخلة معهم التي تحمل نفس المواصفات؟ فإن كانوا بدواً فهؤلاء بدو أيضاً -وهما ليسا كذلك، وإن كانوا حضراً فدوائر (البدو) حضر أيضاً!!
وقد يتراءى للبعض للوهلة الأولى أن هذه ميزة لبعض العشائر، والواقع خلاف ذلك فهي تحرم المواطن في هذه الدوائر المحددة من كامل حقوقه الانتخابية، كمواطن حيث لا يمكنه الترشح في مكان آخر من الوطن بخلاف غيره، وتجعلها كنتونات مغلقة عليهم، كما تجعل التنافس شديدا بينهم مما يثير الشقاق والتمزق والقطيعة بين أبناء العشيرة الواحدة، وإن بشكل سلمي!! بدلاً من وحدة الموقف واجتماع الكلمة والتعاون مع الآخرين من أبناء الوطن لينصهر الجميع في بوتقة المواطنة الواحدة.
2. تصوير العشائر سواء في دوائر البدو أو غيرها بأنهم هم العائق أمام التحول الديمقراطي العام والشامل بأنهم يرفضون الخيارات الديمقراطية، علماً أن أبناء العشائر سياسيون ووحدويون بالفطرة، ومنهم مفكرون، وأساتذة جامعات، واقتصاديون، وهم أبرز قادة الأحزاب السياسية والنقابية ومؤسسات النفع العام والشخصيات الوطنية وعلى مستوى العالم العربي، ويتصدرون الحراكات الشعبية المطالبة بالإصلاح السياسي الشامل.
3. كلما زادت المطالبة وارتفع الصوت الشعبي بتعديل قوانين الانتخاب والأحزاب وحشرت الحكومات في الزاوية، القوا في وجوه المطالبين الحجة التالية:- ان العشائر الأردنية لا تقبل بذلك لأنها تخشى من ضياع حقوقها وامتيازاتها، ولا تقبل الحياة الحزبية، وهذا ظلم لها وحجة غير صحيحة فهل استشير الناس وسمعت آراؤهم بصورة ديمقراطية؟
4. تشويه صورة الحزبيين والشخصيات الوطنية المنتمية والصادقة من أبناء العشائر بشكل مباشر وغير مباشر ، وذلك بالتضييق على ذويهم وابنائهم وأقاربهم الى الدرجة الخامسة !!!في الوظائف والحقوق العامة وحرمانهم منها، لا لذنب اقترفوه إنما لأن فلاناً عمك أو ابن ابن عمك وهكذا، وكأن "ولا تزر وازرة وزر أخرى" ليست آية في الكتاب الرباني العظيم ، وحقيقة في الشرائع البشرية،
وتعمل الحكومة واجهزتها على نشر هذه الحالة في العشيرة لتنقلب على أبنائها المميزين، وعدم الاقتراب من منهجهم، وتخويف الباقين من أبناء العشيرة منهم، ولربما مخاصمة هؤلاء الوطنيين وعزلهم عن التأثير في مجتمعهم لو استطاعوا، ونسج القصص والحكايات المزورة عنهم، والتشكيك في وطنيتهم، وتحميلهم مسؤوليات أحداث لا علاقة لهم بها، حيث يملك المشوشون من وسائل التأثير والإعلام والإغراء والإغواء والتخويف ما يمكّن من هدم الثقة، وتزوير الحقائق، وحتى شراء النفوس الضعيفة، واستغلال حاجات الناس المتزايدة.
5. ربط معيشة ومصير أبناء العشائر (رعوياً) بالسلطة، وفتح المجال أمام بعضهم للوصول إلى مواقع متقدمة في الوظائف العامة، ليظهر وكأنها حكر على شريحة مجتمعية واحدة قوامها العشائر، مع أن المنتفعين منهم قشرة رقيقة جداً فقط تصطدم بالواقع المر بعد تقاعدها الوظيفي، حيث تتزايد متطلبات الحياة, علماً أن هؤلاء لا يتقنون في الغالب إلا الوظيفة التي غادروها وظنوا أنها تكفيهم وأفنوا فيها أعمارهم،
مما يسبب الحسد والغيرة والتخندق لدى أفراد آخرين من العشيرة نفسها، ومن بقية الشرائح الأخرى التي تحاول من جهتها أن تستفرد بكل ما لديها من إمكانات ومؤسسات خاصة لتكون حكراً عليها مقابل احتكار آخرين لمؤسسات رسمية وحرمان معظمهم منها.!!
6. اللجوء لصناعة زعامات عشائرية مقلدة (افتراضية) لا تملك مؤهلات الزعامة والقبول في عشائرها، والتي في الأصل لها شروطها وتقاليدها وتبعاتها، حيث كان زعيم القبيلة –أكرمها، وأسخاها، وأصبرها وأحكمها ، وأحلمها، وأشجعها، وأكثرها تضحية وتجاهلاً للزلات. وقد اقصيت او حجمت هذه الشخصيات لصالح الزعامات الجديدة المصنوعة حتى أطلق شباب العشائر بعض المصطلحات المؤلمة على هؤلاء مثل –شيخ صيني، عباية صيني، قلم صيني، هاتف عملة، ولهذا آثاره المدمرة وويلاته على العشيرة والجهة والمجتمع والدولة بعد ذلك.
7. النفخ في الخلافات البسيطة بين أبناء العشائر في الجامعات ورعايتها وتضخيمها واشعالها في فترات زمنية متقاربة، من خلال طلبة الجامعات، والمباريات الرياضية باسم العشيرة والجهة، ومن جامعة إلى أخرى، ومن ملعب لآخر، مما انعكس سلباً على واقع اجتماعي مهدد بمختلف الأخطار الخارجية والداخلية، ليكون فاقداً للمناعة أمام التحديات،
وتحار في معرفة المستفيد من هذه المصائب وما أجندته، وهل هو خاف على أجهزة الرقابة الرسمية القادرة على متابعة أدق التفاصيل، أم أن وراء الاكمة ما وراءها؟!
8. تعامل بعض الدوائر والأجهزة الأمنية مع المواطنين، فهذا له عزوة وعشيرة وقبيلة تدافع عنه، وآخر يفقد هذا السند ويتحمل من التبعات والمؤاخذات والتشدد في تطبيق القانون عليه بخلاف الآخر وتعمد إظهار هذه الحالة، وقد ظهرت وتظهر صور وممارسات يصعب الدفاع عنها وتبريريها، مما يوهم هؤلاء بأنهم وحدهم (وهذا هو المقصود) أنهم المظلومون والمشمولون بهذه المعاملة،
ولو دققوا جيداً لوجدوا أن هذا الظلم مشترك مع كل مواطن حر صاحب رسالة وطنية جادة بغض النظر عن شريحته.
ولربما أصبح هذا جلياً وواضحاً للعيان في الشهور الأخيرة على الأقل، بما يعيق ولو مؤقتاً بناء مجتمع قوي يتمتع بمواطنة كاملة متساوية، يدفع تكاليفها ومتطلباتها مهما بلغت، وينعم بخيراتها، ويتحمل المسؤولية في المغارم، ويتشارك في المغانم، ما دمنا في بقعة واحدة وفي ظل دولة واحدة، ويحكم بقانون، ويعيش في دولة مؤسسات هو شريك فاعل فيها تكون السلطة فيها للشعب كله من خلال ممثليه الذين يختارهم هؤلاء يفرضون عليه بوسائل التفافية لا تخفى على أحد مهما كانت متذاكية -(ومن هالمراح ما فيه رواح).
9. تخصيص كوتة (ومحاصصة معلومة) في الغالب للعشائر في السلطة التنفيذية، حيث تصبح كأنها من الحقوق المكتسبة التي لا يصح غيابها، مما أسهم في اشباع الفهم الموهوم أنه مؤشر على احترا م العشائر وتقديرها
10. واخيرا كسر حالة الاحتياطات الصحية الصارمة التي تحظر الاجتماعات التي تزيد عن عشرين شخصا فقط ,بالسماح للعشائر ان تجتمع بالمئات وبتشجيع من الحكومة نفسها , وما لهذا من ظلال سلبية على جدية الدولة وهيبتها ولمصلحة من ؟
هذه حال العشائر الاردنية التي تتهم بكل مقدرات الدولة بينما هي تشبه خبز الشعير المأكول والمذموم، كما يقولون حيث يكون مرة لعلف الدواب والطيور، وعند الحاجة يؤكل ويبقى مذموماً، علماً أنه شقيق القمح وجاره في الحقل الوطن والأصل والاستعمال.!!!
وللحديث بقية ان شاء الله
سالم الفلاحات