ان التعاطي مع معظم القضايا الوطنية والأجتماعية التي تشغل الرأي العام بنفس الطريقة الشعبيوية العاطفيه، عادة لا تفضي الى شئ، مما يجعل تكرار حدوثها أمرا حتميا، وبقاء حالة الدوران في الحلقة المفرغة مصيرا ابديا.
مؤشرات خطيرة ظهرت في مجتمعنا الأردني خلال السنوات الأخيرة، وتباينت طرق التعامل معها على الصعيد الرسمي، فأصبح الخطاب السياسي الرسمي في الأردن أشبه بمقاولين للأفكار والمواقف والخطابات والشعارات، ويتأرجح هذا الخطاب بين الأنكار و حجب المعلومة أو حظر النشر أو تشكيل لجان لا نعلم شخوصها ولا نتائجها، بالأضافة لمناخات من غياب الشفافية و التخطيط الأستراتيجي أو في احسن الأحوال تخطيط مع وقف التنفيذ.
ان مرور الكرام على حوادث جسيمة في الأردن هو تقهقر الوعي على المستويين الرسمي والشعبي، فعندما قام الشاب محمد بوعزيزي بحرق نفسه احتجاجا على أوضاع معيشية، اشتعلت الثورة في تونس كلها ضد الأستبداد والفساد واثمرت تغييرا سياسيا سلميا، ومضوا قدما باتجاه فصولا أخرى في دولتهم المدنية " والتي تعد استثناء في العالم العربي".
ومن هنا فإن حادثة أحراق الطالب الأردني أحمد الشخانبة لنفسه ووفاته متأثرا بجراحه النفسية قبل الجسدية، كان لا بد من ان تحدث انتفاضة شعبية، وتسونامي مجتمعي وكان لا بد من ان يلعب المثقفون ايضا وخاصة العضويين منهم دورهم، في هبة واحدة باتجاه اصلاح التعليم في الأردن، خاصة في ظل غياب جماعات الضغط لحماية العامة.
واقع التعليم في الأردن لا يخفى على احد من حيث تدني جودة التعليم العام، واتساع الفجوة قطاعيا بين المركز المحافظات، وانخفاض نسب النجاح في المدارس الحكومية، ناهيك عن غياب المناخات الملائمة في البيئة المدرسية من حيث معايير السلامة العامة والبنية التحتية والإكتظاظ، وتوفر وسائل التدفئة في فصل الشتاء. أما بخصوص التعليم العالي مكان " الحادث الذي مر مرور الكرام" فلا بد من المرور تحديات التعليم العالي في الأردن.
يبلغ عدد الجامعات الحكومية في الأردن حوالي عشر جامعات في مقابل حوالي عشرين جامعة خاصة، مع ان اطلاق صفة الجامعات الحكومية هو مغالطة لأن الجامعات الحكومية ليست بالمجان، بل وتتقاضى اقساطا عالية نسبيا مقارنة مع متوسط دخل الفرد في الأردن، بالأضافة لاستحداث نظام الموازي في الجامعات كرافد مالي عالي لانقاذ خسائر بعض الجامعات، على حساب مقاعد التنافس والتي هي حق للطالب النجيب المتفوق.
أما أبرز التحديات في واقع التعليم العالي في الاردن: الجودة والمنافسة واستخدام التكنولوجيا في التعليم، وتطوير معايير الأعتماد والاستجابة للضغوط والمتطلبات المحلية والاقليمية والدولية، وقصور الطرائق التدريسية والبنية التحتية للاستجابة للمتغيرات المختلفة، وعدم ملائمة الخطط الدراسية لسوق العمل والقطاعات ذات الأولوية التنموية، وضغف التمويل للبحث العلمي، وعدم وجود تنسيق بين التخطيط الجامعي والخطط الأجتماعية والاقتصادية للدولة الأردنية.
وبدلا من ان تتعامل الدولة الأردنية مع هذه التحديات التعليمية الكبرى خلال العقدين الماضيين خاصة في زمن العولمة والثورة المعرفية والتكنولوجية، بادرت الى السماح بإنشاء المزيد من الجامعات الخاصة والركون اليها لتأخذ دور الدولة في أهم أدوارها، والتي افرزت في معظمها نفس المعضلات، بالتالي بات جليا ان معيار الربح المادي وسطوة رأس المال هو المسوغ الوحيد لمشروعية وجود الجامعات الخاصة.
أعلم انه في البلدان الرأسمالية النامية هناك دواعي وأهداف لتحويل القطاع العام أو قسم منه إلى القطاع الخاص كلياً أو جزئياً، كما أنه ليس أسوأ من اقتصاد الدولة الموجه والمحتكر إلا سيطرة رأس المال والقطاع الخاص واحتكارهما للاقتصاد، خاصة عندما لا تقوم الحكومات بدورها في الرقابة والتنظيم بين القطاعات او في ظل وجود تحالفات غير معلنة بينهما.
فرفض الناس هيمنة الدولة لا يعني أنهم لا يرفضون هيمنة القطاع الخاص، ولاسيما في قطاعات مثل الصحة والتعليم. إن التحدي الأساسي الذي يواجه الحكومات عند اعتماد الخصخصة كخيار استراتيجي هو تحقيق التوازن بين دور القطاع العام والقطاع الخاص.
أقلها وكخطوة آنية اقترح تفعيل مفهوم المسؤولية الأجتماعية للشركات ( الجامعات الخاصة هنا) لأن تطبيق المسؤولية الاجتماعية ما يزال طوعياً واختيارياً في الأردن، حيث لم يُسن لغاية الآن أي نص قانوني يلزم الشركات بممارسة دور اجتماعي، أو تخصيص نسبة من الأرباح السنوية لأغراض تنمية المجتمع ككل، أن قطاع التعليم الخاص في الأردن عليه أن ينهض بدوره الفعال "بتحمل مسؤولياته تجاه المجتمع"، وأن يخرج من الدائرة الضيقة المحصورة بهدف تحقيق الأرباح، الى دور أوسع ومسؤول يقدمه الى فئات المجتمع وذلك بانشاء "صندوق منح للطالب المستحق" إننا عندما نتحدث عن المسؤولية الاجتماعية فإننا لا نتحدث عن العمل الخيري "وإنما نتحدث عن العمل التنموي الذي يترك أثراً واضحاً ومستداماً على المجتمع"
وبشكل عام عندما تتنازل السلطة عن القيام بأدوارها الأساسية خاصة في الصحة والتعليم، وتعتمد سياسة القوة والقهر، تبدأ شرائح المجتمع بالتفتت وتأخذ الجماعات بالانسلاخ عن الدولة، وتعود الى أصولها الثقافية كردة فعل والذي حتما سينتج ثقافة العنف والعنف المضاد.