زاد الاردن الاخباري -
كتب الدكتور محمد أبو رمان:
لم يبق صغير ولا كبير، غالباً، في الأردن إلا سمع أو شاهد فيديو الشاب صالح (16 عاماً)، فيديو قصير لعابر سبيل صدف أن كان موجوداً لحظة رمى المجرمون الضحية، بعد أن فقأوا إحدى عينيه وقطعوا يديه. وقد ملأت صورته والدماء تنزف منه مساحة الرؤية للأردنيين جميعاً.
ضجّت مواقع التواصل الاجتماعي، تدخّل الملك والملكة وولي العهد والمسؤولون جميعاً، زاره في المستشفى رئيس الوزراء، الإعلام العربي والعالمي تحدّث عن المشهد المروّع. تم القبض على البلطجية. صرخ آلاف، عبر صفحاتهم الافتراضية، يطالبون بتنزيل أقصى العقوبة بهذه الشرذمة، وبضرورة وضع حدّ لظاهرة البلطجة. وعاد الجميع يتحدثون عن أولئك الخارجين عن القانون، ليس فقط من قاموا بالجريمة، بل من يمارسونها يومياً بفرض سيطرتهم وسطوتهم في المجتمع على الباعة المتجولين وأصحاب المحلات التجارية، ويأخذون الإتاوات، ويعبرون بين النصوص القانونية والعلاقات الرمادية، في أحيان كثيرة، مع بعض المتنفذين من أعيان ونواب وسياسيين، يضعون قانونهم الخاص الذي يسري على الجميع!
يا ترى، لو لم يكن عابر السبيل في ذلك المكان، ويقّدم هذا الفيدو المروّع، ألم تكن قصة هذا الفتى المسكين ستمر كغيرها من القصص العديدة التي بدأ يتداولها الناشطون عن أمثلةٍ شبيهةٍ بهذه العصابة المجرمة؟ فكان السؤال، وما يزال، أردنيّاً وعربياً (لأنها شبيهة بما يحدث في مجتمعات عربية كثيرة)، ما الذي يضمن ألا تحدث مثل هذه القصة، وألا تستمر هذه الظاهرة المرعبة؟
منذ أعوام، ونحن نشاهد مثل هذه القصص، فتبدأ الحملات الأمنية، ثم تنتهي، لتعود الظاهرة في النمو والصعود، فما الذي سيتغيّر بعد هذه القصة؟ ذلك هو المهم؛ كيف يمكن فعلاً القضاء على ظاهرة البلطجة التي أصبحت ترتدي ثوباً جديداً عبر شركاتٍ وهميةٍ، بعضها باسم الحماية، وما هي إلا تكريس لقانون الظل الحقيقي غير المكتوب؟
كتبتُ، كغيري من الزملاء الكتّاب، عن هذه الظاهرة منذ أعوام، وذكرنا قصصاً عديدة عليها، ولم يعد من الممكن أن نقبل بمنطق الفزعة المؤقتة التي تنتهي بمجرد ما تبرد مشاعر الناس وينسون ما حدث؟ ولعلّ ذلك يعود بنا إلى خطاب الملك عبد الله الثاني نفسه، قبل أعوام، عندما أكّد أهمية مبدأ سيادة القانون، وهو كلمة السرّ الرئيسية هنا، عندما يشعر الجميع بأننا دولة قانون يطبق على الجميع، بلا استثناء، أو مزاجية، أو شدّة في أوقات وتراخٍ في أوقات أخرى، لأنّنا نتحدث هنا عن أمن يومي، يمثل أبسط حقوق الناس جميعاً، وهو الأمر الذي من المفترض أن يكون السند التشريعي له واضحاً صلباً قوياً، يمكّن القضاء ورجال الأمن من وضع حدّ لذلك.
لكن من المهم أيضاً أن نتساءل، أردنياً وعربياً، عن دور الجامعات والكليات والمجتمع المدني والقيادات الاجتماعية. فما هي فائدة كليات العلوم الاجتماعية ومئات الأساتذة والطلاب، إذا لم تكن مثل هذه الظواهر ضمن بؤرة اهتمامهم الأكاديمي والبحثي والعلمي؟
الخطر القادم اليوم من الداخل أكبر بكثير من الخارج، وصلابة الجبهة الداخلية لا تقف فقط عند العلاقة بين الدولة والقوى السياسية، بل بتوفير سياج حماية للمجتمع والقيم وتعزيز الثقافة السلمية، ودراسة مثل هذه الظواهر وأسبابها وطرق علاجها، وتطوير القوانين والأنظمة والمؤسسات، لتكون قادرة على التعامل معها.
أتعلمون أكثر ما يخيفني فعلاً؟ أن تكون المياه تجري من تحت أقدامنا ونحن لا نعلم، فكم حجم انتشار المخدّرات والتطرّف في مجتمعاتنا؟ وكم حجم الآفات المجتمعية التي ندفن رؤوسنا في الرمال كي لا نراها، وإذا ربطنا ذلك بفجوة الثقة المجتمعية اليوم، وبتنامي الفجوة الطبقية وبمعدلات البطالة، وما تجلبه من أخطار اجتماعية وبضعف دور مؤسسات المجتمع المدني وتراجع دور مؤسسات التنمية المجتمعية، فقد نكتشف أنّنا نجلس على بركانٍ يغلي، ونحن لا ندري.
عندما نتحدّث عن الإصلاح السياسي والتعليمي والإداري والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، والشراكة بين الجميع وتكامل الأدوار ودور القوى السياسية والمجتمعية، فذلك ليس ترفاً ولا نافلة من القول، بل عملية إنقاذ لمجتمعاتنا، قبل أن يأخذنا جميعاً طاعون اجتماعي لا يبقي ولا يذر، فهل نصحو بعد هذه الجريمة أم هي صدمة ثم نعود إلى ما كنا عليه؟.