زاد الاردن الاخباري -
كان لافتاً أن يشير ملك المملكة الهاشمية الأردنية، عبد الله الثاني، في مقابلته مع وكالة الأنباء الأردنية الرسمية، بترا، قبل أيام، إلى ضرورة إعادة النظر في القوانين الناظمة للحياة السياسية، كقوانين الانتخاب والأحزاب والإدارة المحلية، بهدف تعزيز المشاركة السياسية للأحزاب السياسية وللشباب. قيمة حديث الملك أنّه يأتي بعد أشهر قليلة على الانتخابات النيابية التي جرت في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، وفقاً لقانون انتخابٍ واجه رفضاً من أغلب القوى السياسية، قبل الانتخابات وبعدها، ولم يؤدّ إلى تحسين الحياة السياسية بقدر ما كان سبباً في استدامة الأزمة السياسية الراهنة، وضعف أطر المشاركة السياسية وفشل الأحزاب في تلك الانتخابات، فضلاً عن استمرار الفجوة بين جيل الشباب ومؤسسات الدولة التمثيلية.
المفارقة أنّ الحديث عن قانون الانتخاب كان محرّماً في أروقة الدولة، على الرغم من محاولات النخب والقوى السياسية فتح النقاش في الموضوع قبل الانتخابات، إلّا أنّ الإصرار كان على إجراء الانتخابات وفقاً للقانون الحالي، وكان الردّ على دعوات التغيير بأنّه لا توجد صيغة مثلى للقانون، وأي صيغةٍ لها إيجابيات وسلبيات، وبالتالي لا يمكن إجراء الانتخابات النيابية في كل مرّة وفقاً لقانون جديد!
اليوم، من الواضح أنّ الخطاب الملكي على أعتاب المئوية الجديدة يضع مرّة أخرى ملف الإصلاح السياسي، وقانون الانتخاب تحديداً، على طاولة الأولويات، بل بدأت الحكومة ومؤسسات الدولة فعلياً بمشاورات ومناقشات لدراسة الاتجاه المطلوب في التغيير وتحديده. وأحد السيناريوهات المقلقة المطروحة يتمثّل في العودة إلى الصوت الواحد، ولكن ضمن دائرة صغيرة ونائب واحد (على غرار القانون البريطاني)، وهذا إن حدث سيكون كارثة حقيقية، ليس فقط على الحياة السياسية، بل الاجتماعية والثقافية، لأنّه سيؤدّي إلى تعزيز الهويات الفرعية أولاً على حساب الهوية الوطنية الجامعة، وسيعزّز من فرص النواب غير المؤهلين الذين سيمثلون الحارات والأزقة والعشائر، بدلاً من الوطن، وسيكون بمثابة الضربة القاضية لصورة مجلس النواب التي تضعضت أصلاً خلال الأعوام الماضية بدرجة كبيرة في استطلاعات الرأي العام.
يتعارض مثل هذا الاقتراح الكارثي، حرفياً وجوهرياً، مع دعوة الملك إلى تعزيز المشاركة السياسية لجيل الشباب والأحزاب السياسية، ولما كتبه الملك سابقاً في أوراقه النقاشية بالدعوة إلى تشكيل أحزاب برامجية محترفة، تتنافس على تشكيل الحكومة، وملكية دستورية ودولة مدنية، وبرلمان سياسي تشريعي ورقابي، في مقابل قيام مجالس الإدارة المحلية بدور الخدمات التي أصبح يقوم بها النواب لاحقاً، وأدّى إلى خلل كبير في الحياة السياسية، ما انعكس حتى على صعيد السلطة الأخلاقية للدولة وقيمها في نظر شرائح اجتماعية واسعة.
يبدو الإصلاح السياسي اليوم ليس فقط ملحّاً، ولا ضرورة وطنية، بل أكثر من ذلك هو مسألة مصيرية، على أبواب مئوية الدولة، إذا أرادت فعلاً الدولة الدخول إلى المرحلة المقبلة بروح نهضوية وطنية متجدّدة، بعيداً عن مشاعر الإحباط واليأس المتراكمة تجاه إيجاد، فعلاً، حلول لتطوير الحياة السياسية وتعزيز مشاركة الأحزاب وإدماج جيل الشباب (جيل الألفية)، الذي يشعر بحالة من الغربة الحقيقية مع مؤسسات الدولة، ولا يجد مساحات مشاركةٍ فاعلة.
يضاف إلى ذلك كلّه عامل حاسم ومهم، يتمثّل في التحولات الاقتصادية الكبيرة التي حدثت، إذ جعلت اعتماد الموازنة العامة بجزء كبير منها على الضرائب المختلفة التي يدفعها المواطنون، وتراجع قدرة الدولة تماماً عن القدرة على تأمين وظائف في القطاع العام (المتضخّم أصلاً)، مع ارتفاعٍ غير مسبوق في أعداد العاطلين من العمل، وتوقعات بارتفاع منسوب الفقر مع تداعيات كورونا التي ستبدأ بالظهور بوجه سافر أكبر بمجرد إنهاء العمل بأوامر الدفاع، وتوقعات باستغناء عدد كبير من مؤسسات القطاع الخاص عن الموظفين!
في ظل الأزمة الاقتصادية والمالية وتوقعات غير متفائلة كثيراً لمعدل النمو (في ظل تداعيات كورونا)، فإنّ الانفتاح السياسي وتوسيع قاعدة المشاركة والشراكة المجتمعية في تحمل أعباء المرحلة المقبلة بمثابة مفتاح رئيسٍ لتجنب أي انعكاساتٍ أو تداعياتٍ خطيرةٍ للوضع الاقتصادي على الأوضاع السياسية والأمنية.
بالعودة إلى قانون الانتخاب، من الضروري الإشارة إلى أنّ أكثر قانون ما زال يحظى بتوافق وطني هو قانون العام 1989، الذي أجرى عليه الملك الراحل الحسين بن طلال الانتخابات حينها، وأفرز حضوراً واضحاً للشخصيات الوطنية والحزبية والسياسية، وفرّغ حالة الاحتقان الداخلي حينها المرتبطة بتلك الأزمة. وإذا كانت هنالك معارضة (داخل النظام) لهذا القانون، خشية من صعود الإخوان المسلمين، فمن الممكن العودة إلى مشروع قانونٍ كان قد تقدّم به رئيس الوزراء الأسبق معروف البخيت، وأجريت على أساسه حساباتٌ دقيقةٌ توقعت فوز المعارضة بثلث مجلس النواب، أي ما دون الأغلبية بكثير.
لكن المهم في ضوء ذلك كله، وفي إطار إدراك أهم من أنّ لحظة الربيع العربي لم تكن غمامة صيف عابرة، بل مرحلة جديدة بالكلية في معادلات العالم العربية الداخلية، ولأنّ الملوك الهاشميين عرفوا بالدهاء واستباق الأحداث، فإنّ المطلوب اليوم ليس تنفيساً ولا إبر تخدير، بل تجديداً حقيقياً للمعادلات السياسية، بما يستعيد روح النهضة والنضال والهوية الوطنية القومية التي تحدث عنها الملك في مقابلة "بترا"، وأشار إليها الأمير الحسن في مقالة مهمة نشرت في صحيفة الرأي بمناسبة المئوية، ما يخلق حراكاً جديداً في المجال العام، ويدفع الشباب إلى انتخاب قياداتهم وممثليهم، ويحفّز الأحزاب التي فشلت في الانتخابات الماضية على مراجعة خطابها وقدراتها، ما يعطي دفعةً كبيرةً حقيقية لإصلاح العلاقة بين الدولة والمجتمع، ولمشروع الإصلاح والتجديد، بدلاً من الاستمرار في إدارة الحياة السياسية بطريقة القطعة والمياومة والإدمان على سياسات إطفاء الحرائق في التعامل مع الأزمات!