زاد الاردن الاخباري -
كتب الدكتور محمد أبو رمان:
أطلقت إشارة ملكية أخيرا صافرة النقاش، مرّة أخرى، ليعود الجدل بين مستبشر بتغييرات تؤدي إلى تحسين المسار الديمقراطي ومشكّك نتيجة الخبرة الأردنية السابقة مع هذا الملف، ولم تُجدِ تغييراتٌ عديدة في إحداث القفزة المطلوبة في الحياة السياسية. مَن يتابع حوارات النخب ومراكز التفكير والدراسات والمقالات الصحافية سيذهل لحجم التدفق الكبير السريع لموضوع الإصلاح السياسي، خصوصا بشأن النظام الانتخابي الذي يعدّ مفتاحاً ذهبياً لتطوير النظام السياسي الأردني، كما يطمح كثيرون على أعتاب المئوية الجديدة.
ولكن قبل النقاش في التفاصيل والحيثيات والصيغ المطلوبة، من الضروري، بدايةً، أن نتفق على الأهداف الحقيقية والنتيجة المطلوبة من حديث الإصلاح، هل فعلاً نريد التغيير وتطوير الحياة السياسية؛ لاستعادة قوة الركن البرلماني عبر مجلس نوابٍ يمثل الشارع، وأحزاب أو قوى سياسية فاعلة وإدماج لجيل الشباب في المراكز القيادية، أم أنّ الأمر لا يزيد عن مجرّد هوامش وتحسينات طفيفة فقط، على قاعدة "أنا لا أكذب ولكنني أتجمّل"!
أهمية السؤال تكمن في أنّ هنالك قناعة راسخة حكمت "العقل الباطن" للمؤسسات الرسمية الأردنية بأنّ الإصلاح السياسي يمثّل خطراً حقيقياً على النظام السياسي، وأنّ أي تغييراتٍ تؤدي إلى برلمان قوي بمثابة قفزة في المجهول ومقامرة بمستقبل الأمن الوطني، أو أنّ الهوية الوطنية ستكون في مهبّ الريح في حال فلتت اللعبة السياسية من بين الأيدي.
للأمانة، لم تنبع تلك الهواجس من فراغ؛ ولعل القطبة المخفية التي تمثّل المحدّد الأكبر للإصلاح السياسي في الأردن، منذ تأسيس الإمارة، تتمثل في العامل الجيو استراتيجي، الذي وضع الأردن في وسط دولٍ عربية كبيرة، بلا موارد مالية، وبجوار فلسطين والاحتلال الإسرائيلي، وارتبط بالضفة الغربية ضمن دولة واحدة فترة طويلة، فضلاً عن التواصل الاجتماعي والجغرافي العميق بين الأردن وفلسطين، والذي يجعل من سؤال الهوية مطروحاً لدى الأطراف المختلفة في أي صيغة أو معادلة سياسية.
أكثر من ذلك، انتهت تجربة حكومة سليمان النابلسي (الحزبية الوحيدة في التجربة الأردنية) في الخمسينيات إلى محاكمة الرئيس وأعضاء الحكم، بعد محاولة انقلاب الضباط الأحرار على النظام الهاشمي، ما أدّى إلى إلغاء الاحزاب والعودة إلى المربع الأول في المسار الديمقراطي.
بقيت هذه القناعة هي التي تحكم المنظور الرسمي لأي مشروع إصلاح سياسي وتغيير ديمقراطي، وعملت دوماً على تفضيل الاستقرار السياسي على الإصلاح. وبالضرورة، ليست المسألة مرتبطة بالكلية في القناعات، فهنالك نخبٌ مبنيةٌ مصالحها ومراكزها ومواقعها على غياب الديمقراطية والإصلاح. ومن الطبيعي أن تقاوم التحول المطلوب، باستخدام الحجج السابقة، بالإضافة إلى "عامل الخوف" مما يحدث في الجوار غداة الربيع العربي، بخاصة في سورية. في مقابل الدواعي والدعاوي السابقة التي شكّلت قناعة التيار المحافظ عموماً ضد أي تغييراتٍ نوعية وجوهرية، هنالك دوافع حقيقية وجوهرية، ربما بدأت تنمو في قناعة صانع القرار، بضرورة تجديد الحياة السياسية وتطويرها على أبواب المئوية، وعدم القدرة على الاستمرار في إدارة البلاد بالعقلية التقليدية.
يدرك من يعيد قراءة الأوراق النقاشية تماماً أنّ لدى الملك عبدالله الثاني قناعة عميقة بأهمية الإصلاح وضرورته، وقد صرّح بذلك عندما قال إنّه يريد أن يورّث لولي العهد نظاماً واضحاً وأقل تعقيداً، وأنّه يسعى إلى إقامة ملكية دستورية وحكومات حزبية، ودولة ذات طابع مدني، لكنّ هذه الأوراق بقيت محاصرةً في القناعة السابقة في التخويف من الإصلاح ومآلاته.
أكثر من ذلك، فإنّ متغيراً مهماً ورئيساً يدفع اليوم نحو تبنّي إصلاح حقيقي والدخول إلى المئوية بروح جديدة؛ ألا وهو جيل الشباب الذي يشعر بالتهميش الاقتصادي والسياسي، فإمّا أن يكون قوى لتطوير الدولة أو مصدر خطر وقنبلة موقوتة في حضنها!
طريق الإصلاح الهادئ المتدرّج العقلاني ليس فقط في الأردن، بل في أغلب تجارب التحول الديمقراطي التاريخية يمر عبر التفاهم بين الجناح الإصلاحي في النظام والتيار المعتدل العريض في المعارضة، ويتم من خلاله بناء التوازن بين الضرورات الحقيقية للإصلاح السياسي ومراعاة الهواجس والمخاوف لدى بعض المؤسسات والشرائح الاجتماعية من مآلات الإصلاح. وفي ظني أنّ التيار العقلاني في المعارضة هو الأقوى والأكثر تأثيراً، ما يخفف من حجم تلك الهواجس ومبرّراتها.