زاد الاردن الاخباري -
كتب الدكتور حسين عمر توقه - غابت البسمة الطيبة وبكت السماء لغيابها في التاسع من شباط عام 1977. كانت الدموع تكلأ عيني الحسين الملك الإنسان وهو يودع توأم الروح والوجدان والضمير ويلقي بالنظرات الحزينة الأخيرة على نعش الزوجة الشهيدة علياء ملكة القلوب ورفاتها الطاهر يوارى التراب في الهاشمية.
بسم الله الرحمن الرحيم ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ) صدق الله العظيم.
كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز . وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور.
اللهم عبدك رد إليك فارأف به وارحمه . اللهم جاف الأرض عن جنبيه . اللهم افتح أبواب السماء لروحه الطاهرة وتقبله بقبول حسن.
كثيرة هي الكلمات وكثيرة هي الدموع . في ذلك اليوم الحزين استيقظت الملكة علياء رحمها الله وطالعت صحف الصباح وشد انتباهها ذلك النداء الحزين المكتوب بالحروف البيضاء على خلفية سوداء تستصرخ من خلاله مدينة الطفيلة المسؤولين أن يبادروا إلى تحسين مستوى خدمات مستشفى الطفيلة.
كانت السماء متلبدة بالغيوم السوداء ولكن قلب الملكة الأبيض لم ير غير نداء الإستغاثة من مواطني الطفيلة فقررت أن تلبي النداء واتصلت مع الطيار بدر ظاظا وأخبرته برغبتها في الوصول إلى الطفيلة في أسرع وقت ممكن . وتم الإتصال مع وزير الصحة الأردني محمد البشير ومع اللواء داوود حنانيا مدير الخدمات الطبية وتم إتخاذ كافة الترتيبات للقيام بالرحلة الأخيرة من قصر الهاشمية إلى مستشفى الطفيلة .
وبكل الحماس وبكل البراءة وبكل الطيبة وتلبية لنداء الإستغاثة أخبرت المواطنة الأردنية إبنة الشعب علياء أخبرت زوجها ملك البلاد رحمه الله بعزمها على زيارة مستشفى الطفيلة وقرأ الحسين نداء الإستغاثة ووعدها بأن يقوما معا بزيارة الطفيلة وأخبرها بأن الأحوال الجوية لا تسمح في القيام برحلة جوية في ذلك اليوم الغائم . كما أخبرها بأن لديه إفطار عمل مع ضيف الأردن ممثل الأمين العام للأمم المتحدة وهو في طريقه الآن إلى قصر الهاشمية.
وتم إلغاء الرحلة ولكن إرادة الله أكبر من الجميع ولا راد لقضاء الله سبحانه وتعالى . نظرت الملكة إلى تلك الصفحة من جديد وعادت لتقرأ كلمات الإستغاثة الحزينة وسالت الدموع من عينيها وكتبت بيدها على ورقة صغيرة كلمات معدودة تم تسليمها إلى جلالة الملك الحسين رحمه وهو في الإجتماع الرسمي مع ضيفه ممثل الأمين العام للأمم المتحدة تقول فيها (لقد قررت أن أزور الطفيلة) .
وتم إتخاذ الإجراءات اللازمة للقيام بالرحلة إلى الطفيلة وتم الإتصال من جديد مع وزير الصحة الشهيد محمد البشير رحمه الله واللواء داوود حنانيا الذي تم إستدعاؤه بشكل طارئ إلى غرفة العمليات لمعالجة جندي تعرض إلى جلطة قلبية ويشاء القدر أن يُنسب اللواء داوود حنانيا الطبيب المقدم مهند ألخص كي ينوب عنه في هذه الزيارة . وكان قد سبق أن تعرض الطبيب مهند ألخص إلى قصف جوي عنيف إبان حرب 1967 وتم تدمير المستشفى العسكري في الضفة الغربية وأصيب رحمه الله بإصابات بالغة وهو يؤدي واجبه الإنساني في معالجة جرحى المعارك من ربع الكفاف الحمر "الرجال الرجال" حين كانت الطائرات الإسرائيلية تقصف نشامى الجيش العربي الباسل ولم تميز طائرات العدو بين المستشفى العسكري وبين الوحدات الأردنية المقاتلة وتمت إعادة الطبيب مهند ألخص إلى وطنه وأهله بعد أن فقد إحدى عينيه بعد أشهر من الأسر والإعتقال.
وقام المقدم الطيار الركن بدر الدين ظاظا رحمه الله وهو طيار الملك الخاص ومن أكفأ طياري سلاح الجو الملكي صاحب البسمة الأبدية بقيادة طائرة الهيلوكبتر الملكية الفرنسية الصنع وتوجه بها إلى مستشفى الطفيلة حيث قامت الملكة علياء رحمها الله يرافقها وزير الصحة الأردني الدكتور محمد البشير رحمه الله والطبيب العسكري المقدم مهند ألخص رحمه الله المنتدب من قبل مدير الخدمات الطبية الملكية بتفقد مرافق مستشفى الطفيلة والإطلاع على كافة إحتياجات المستشفى ترقبها عيون أبناء الطفيلة عيون الشعب الأردني الطيب وقد مسحت الملكة الشهيدة بيديها تلك الدموع الحزينة واستبدلتها بنظرات أمل ووفاء . واستقبلتها النسوة بالزغاريد والملكة تكاد تطير من الفرح لشعورها بأنها تحقق بعضا من تطلعات أهل الطفيلة من تطلعات مدينة من مدن الجنوب .
وما أن أنهت الملكة جولتها الإنسانية وقامت بتوديع ذلك الجمع من الأطفال والنساء حتى بادرت في رحلة العودة إلى عمان العاصمة السعيدة لتزف لزوجها ما حققته في تلك الزيارة. وفي طريق العودة تعرضت طائرة الهيلوكبتر إلى عاصفة هوجاء تخللتها سحب وغيوم سقطت من خلالها الطائرة وانقطع الإتصال مع الطائرة وخيم صمت مطبق فوق أجواء الأردن. وتم إبلاغ الحسين رحمه الله بانقطاع الإتصال ومضى الوقت العصيب بطيئا ثقيلا وعمليات البحث عن الطائرة المنكوبة مستمرة وجاء خبر الإستشهاد عنيفا عاصفا قاسيا وتجمع الناس تلقائيا في بيت المرحوم بهاء الدين طوقان والد الملكة .
كانت الدموع تملأ عيني الملك الإنسان الزوج والأب والرجل والقائد وهو يلقي بالنظرات الأخيرة على نعش الزوجة الإنسانة الطيبة الحنونة الشهيدة علياء ملكة القلوب توأم الروح والوجدان والضمير وتابع بكل أحاسيسه ومشاعره وعواطفه رفاتها الطاهر يوارى التراب في الهاشمية لحظة بلحظة التقت في نهايتها عيني بعين الملك لوهلة في قلب العاصفة لو جمعتُ كل الكلمات كي اصف الصمت الرهيب والحزن الذي لا يرحم قطعهما الحسين وهو يرفع يديه نحو السماء يقرأ الفاتحة على روح المرحومة علياء التي عادت إلى ربها راضية مرضية .
لقد غابت البسمة الطيبة وبكت السماء في التاسع من شباط عام 1977م.
الملكة الشهيدة علياء طوقان التي ترجع في تاريخها إلى مدينة نابلس الأبية في الضفة الغربية . الشهيد معالي الدكتور محمد البشير العواملة من مدينة السلط العريقة . الشهيد الطيار الركن بدر الدين ظاظا كردي من مواليد السلط. الشهيد الطبيب المقدم مهند ألخص حاتوغ شركسي من ناعور القرية الجميلة الوادعة. هذه الكوكبة الطاهرة من الشهداء يروون بدمائهم الأرض الزكية ويفدون بأرواحهم الأردن الوطن الأغلى هم مثال المجتمع الأردني الطيب الأصيل الشهم الشجاع الذي كنا نعرفه ونرضاه .
فيا أرحم الراحمين اللهم إني أسألك بجاه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين نبيك نبي الرحمة وبسيدنا إبراهيم خليلك وبسيدنا موسى نجيك وبسيدنا عيسى كلمتك ومن روحك أن ترحم شهيدتنا علياء وشهداءنا محمد وبدر ومهند رحمة تليق بكرمك وأن تغفر لهم وتكرم نزلهم وأن تجعل الجنة مسكنهم يا أرحم الراحمين .
** الكاتب باحث في الدراسات الإستراتيجية والأمن القومي