زاد الاردن الاخباري -
كتب: عبدالهادي راجي المجالي : دولة الرئيس..
نحن في أيام خدّاعات، لا دمع يكتمل في العين فيسفح على خد ويجري.. ولا شهيق يكتمل في الرئة، ويطفئ جذوة الغضب في الروح.. ولا درب يحمل هذي الخطى القلقة، ولا مستقبل تكون فيه الشفاعة، للذين شدوا على جمر البلد يدهم.. واحترقوا.. لأجل أن يسلم البلد.. ولا قصيدة لعرار في المدى تمر ولو عبر عصفور هارب من برد تشرين..: (أنا يا أردنيات إذا اوديت مغتربا .. فانسجنها بأبي أنتن اكفاني ..)
دولة الرئيس..
أتدري ما سر وصفي التل، وكيف أحببناه.. ولماذا ؟.. اسمعني هذه الليلة، أدري وأصابعي تدري والقلب يدري أني سأزعج في روحك ذاك الحنين.. ولكن اسمعني قليلاً: وصفي كان حلمنا.. وقمحنا، تنبه في بداية الدولة لما يسمى (الشخصية اللينة).. لم تكن شخصية الأردني قد تكونت في إطار الدولة، بل كانت محصورة في إطار العشيرة والبداوة، والصحراء والغزو والقبيلة.. وصفي تنبه (لتغريب القرار) وأشد ما في الأوطان تغريب قرارها، فأنت إن فعلت ذلك.. كأنك تنفي الروح.. وصفي أراد أن يصهر كل تلك الهويات في انتماء واحد، هو الدولة والعرش...كان يريد أن يثبت للعالم العربي..أن الأردني خلق قائداً، وأن من تربى تحت سراج الزيت في الأرياف يجرؤ أن يكون طبيبا.. وأن من احترف مسك لجام الخيل، سيطوع الزناد على إصبعه ويصبح القتال مذهبا وعقيدة لديه..
هو من كون الشخصية الوطنية في إطار البيروقراط الصارم، في إطار الإعلام المنضبط .. وفي إطار المشروع السياسي الملتزم بقضايا الأمة.. لهذا حين صعدت روحه على أدراج فندق الشيرتون في القاهرة، لم يكن ما حدث اغتيالاً للجسد والشخص بل كان اغتيالاً للمشروع.. والحقيقة أن مشروع وصفي لم يكتمل ولو قدر له أن يكتمل، لكان للتاريخ حكاية أخرى.. وسرد بعيد عما يسرد الآن.
وصفي قضى على الشخصية (اللينة)، وأنتج الشخصية الصارمة المقاتلة..
دولة الرئيس ..
أنت الآن وبعد الرسالة الملكية للمخابرات، أجزم أنك متحرر من التأثير الداخلي.. ومتحرر من سطوة، من يشكلون في المجالس الضيقة.. لوبيات ضاغطة باسم أمريكا، متحرر أيضاً من سطوة رأس المال وجبروت البنوك، وأنت متحرر أيضاً من القطاع الخاص.. لم ينتجك مجتمع الشركات ولا مجتمع البنوك.. ولا مشاريع القروض الميسرة، أنت تدرج البيروقراط المنطقي في الدولة.. والأهم أنك متحرر من الإنتهازية السياسية التي صارت في لحظة منهجا وشريعة لدى البعض..
واسمح لي أن اقول لك، إن فريقك الوزاري جاء على قاعدة العطوة العشائرية ولم يأت على قاعدة المشروع.. أو الوعي السياسي أو التحالف مع العقل، والغريب أنه جسم مناقض جدا لشخصيتك ومتصادم معها.. أنا أفهم أن البدايات تجيز التجريب ولو بالقليل.. ولكن المرحلة لم تعد تحتمل أبداً.
قد يقبل الأردني بفقره وبضيق حاله، مقابل أن يكون هنالك مشروع خطاب مقنع للدولة.. وأنا لا أعرف سيدي الرئيس، هل سيتشكل هذا الإقناع ..عبر مذيع مفتون بقدراته في الحوار، حين يقتحم مركز الأزمات ويلم مجموعات هائلة من وزرائك.. ويبدأ بتوزيع الأدوار عليهم، كأنهم في صف ويحترفون منهج التلقين (كرجة ميه)..هل هذه هي الشخصية الصارمة التي ورثناها من وصفي التل؟
قد يقبل الأردني بكل هذا الحجم من التهميش، حين يجد ثباتا في الدولة.. لا وزيرا يقتحم الثلوج في ليلة برد كي يحدثنا عن التنمية السياسية عبر شاشة التلفاز الأردني..عبر كلام تكرر نفسه ومنذ سبع وزارات، ولم يتمخض عنه سوى الغثاء..
قد يقبل الأردني بكل هذا الوجع، حين يحترم الإعلام .. وحين تنهض حكومة كاملة لإنقاذ إرث وطني وإعلامي متمثل بصحيفة الرأي، لا أن تترك الساحة لسادة الدكاكين الإعلامية، وكم تألم قلبي قبل عام وأكثر وأن أراهم ينثرون صورهم في احتفالات السفارات.. ويقبلون رؤوس السفراء ويطلبون الرضا... هل هذه هي الشخصية الأردنية التي علمت العرب أبجديات الخطاب، هل هذه هي الشخصية الأردنية التي كان العرب يطرقون باب وزاراتها وصحفها.. يستجدون من العقل الأردني أن يرحل إليهم ويعلمهم.. كي تزرع الأبجدية في القلب، وكيف يقدس الكتاب.. وكيف تكون الجيوش والمدارس منارات للحياة والصعود.. لماذا لم يرحل جورج حداد لسفارة في حياته، ولماذا أصر طارق مصاروة أن يحترم قلمه ويموت كما سنديانات الكرك.. واقفا تحت الشمس، ولماذا لم يذهب راكان المجالي للخليج منتصف السبعينيات كي، يعمل في الصحف ويلم الدولارات.. ولماذ ظل خيري منصور ومؤنس الرزاز، على أرصفة عمان يتجولان .. ولم يغرهما مال الاغتراب.. لماذا أيضا صعد بدر عبدالحق درجات المعرفة ومارس التنوير، ومات زاهداً.. عفيفا كريما..
دولة الرئيس..
الأردني قد يقبل بكل شيء حين تحصن ساحته الوطنية، ولا توزع ولاءات بعض الأبواق بين سفارة وأخرى، ولا يصبح بعض الإعلام وسيلة تسول.. من منظمات العطف الدولي، ولا يطل علينا يعض من تعلموا في بيروت شيئا من أبجديات اليسار وتعلن الدولة تحالفها معهم.. ويصبحون أئمة التنوير، وأئمة الخراب.. ويصبحون عقل الدولة ومنتج القرار.. الأردني قد يقبل بكل هذا الضيم ..قد يقبل..ولكن الأزمة التي تفجرت لديه الان هي أزمة الهوية وأزمة التعريف وأزمة الزمن..
أما الهوية فثمة التباس غريب عجيب، حين تجد وزيراً يلقي كلمة في محفل دولي وباللغة الإنجليزية البدائية التي يجيدها طلاب السادس الإبتدائي بأكثر مما يجيدها هو... ويهرب من مسقط رأسه (العرب الأنباط)..أول حضارة عربية وأعرق حضارة وسيدة الممالك، من الممكن أن تمرر هذه الحالة لمطرب.. لأن كل مغن يسعى للعالمية، ومن الممكن أن تمررها للاعب كرة قدم لأن كل لاعب يسعى أيضا للعالمية.. لكن لوزير مؤتمن على تراث أمة!..لماذا صار الهروب من موروثنا تقدمية، والحديث عن أخلاقنا وقيمنا رجعية.. ولماذا صار تمكين المرأة قصة، وسن الزواج معضلة.. صرنا نحس بأننا نسجن النساء ونغتالهن باسم القبيلة، لقاء أن ترضى مؤسسات أمريكا.. ويرضى البرلمان الأوروبي، لقاء أن يستمر شلال المال.. ويصبح الشرف مشروعا يقدم ضمن المشاريع المؤجلة على طاولات الإتحاد الأوروبي .
أما التعريف، فلا تقحمونا في زوايا البحث عن وظيفة حارس ليلي، أو مجند مستجد..العقل الأردني محترم جدا، ولكنه محشور في زوايا الخبز. .وأظن أن هذا الحشر مقصود ومبرمج، فحكومة قتيبة (سامحها الله) دمرت كل أشكال احترام العقل الأردني وصار الخطاب عبر (تويتر) وعبر (الفيس بوك) وأحيانا عبر (البث الأثيري).. وصار مفهوم العقد الاجتماعي سلعة لفظية لتجارة خاسرة، هم استعملوها ووظفوها دون أن يفهموها للأسف..إن اصعب وأخطر شيء تمارسه الدولة هو احتقار العقل، وربما تجلى هذا الأمر حين شرح هيكل (رحمه الله) في كتابه خريف الغضب، كيف احتقر السادات الوجدان والعقل المصري.. وكيف دفعت مصر من مثقفيها وعلى رأسهم نصر حامد أبو زيد.. دما وصراعا كاد أن يفتك بوحدة المجتمع المصري..نحن الوحيدون في العالم العربي الذين نملك هرم الوعي المعكوس، فالشارع متقدم في الوعي على السلطة بأضعاف بعكس انماط الحكم الأخرى وأشكاله في العالم العربي..لهذا احترام العقل الأردني ضرورة..
دولة الرئيس ..
أنا لست بالأستاذ كي أمارس التنظير، هي هواجس مؤلمة.. هي نتاج شعب كان دمه الخضيب حياة الأمة.. وأنا أعرف أن الفرصة الان ربما سانحة أمامك، كي تغير في مفهوم وشكل الحكومة، كي تؤسس مشروعا وخطابا..قائما على التراب والإنتماء له، والعرش وصونه.. مشروعا وطنيا وليس مستوردا.. مشروعا يقوم على التحالف مع طبقة همشت وحولت في لحظة إلى ضحية لدفع الضرائب.. وتمرير الخراب على أرزاقها وأبواب بيوتها ومستقبل أولادها..مشروعا وطنيا حقيقيا، لا يقوم على وزراء الولائم ..ولا على وزراء الجاهات ..ولا وزراء الاباء الذي مروا في الدولة ..بل على الفقراء والحراثين والمهمشين.. ومن اتسعت رؤيتهم حين ضاقت بهم صدور بعض المؤسسات..
أنا واثق أنك إن لم تستطع أن تنتج كل ذلك، على الأقل لن تنتج لنا الخراب مثلما أنتجوا.. حماك الله واسلم لصديقك.