لا يقارع الفكر إلا بالفكر، هذا ما أجاب به سماحة مفتي عام المملكة الشيخ عبدالكريم الخصاونه في معرض إجابته عن سؤال حول كيفية التعامل مع السلفيين الجهاديين، في محاضره ألقاها بحضور جمع من التربويين والطلبة في المدرسة الشاملة للبنات في الزرقاء يوم الثلاثاء 3-5-2011. وأكد سماحته أن هؤلاء –السلفيين الجهاديين- أبنائنا وأخوتنا، ويجب أن نعاملهم بالحسنى، ونشعرهم بالأخوة والحنان، وأن نجتث الأسباب التي تساعد على نمو الفكر المتطرف من فقر وبطالة، وإذا سجنوا فيجب أن نحاورهم ونجادلهم بالتي هي أحسن، وأن اللجوء إلى القوة لا يزيدهم إلا تمسكاً وتشبثاً بأفكارهم.
تكمن أهمية هذا الخطاب لأنه يصدر عن شخصية رسمية كبيرة، تحظى بالاحترام والتقدير، وهي المنوطة بإصدار الفتوى، حيث حرص سماحته على القول إننا نحكم على الفعل وليس الأشخاص، ولا ينبغي لنا أن نحكم بالكفر على شخص يشهد أن لا إله إلا الله محمد رسول الله.
خطاب سماحة المفتي، خطاب حكيم، يسعى إلى التآلف والتجميع ورص الصفوف، وليس التجييش والإقصاء والتصنيف كما فعل للأسف كثير من المسؤولين والسياسيين والكتاب وحتى من نصبوا أنفسهم شيوخاً وعلماء.
ما ينقصنا في هذا البلد الطيب التسامح المطلوب مع أصحاب الفكر المخالف مهما اشتط أو تطرف، لأن التسامح يجلب التسامح، والقبول يستدعي القبول، والحوار يؤدي إلى الحوار والتفهم ومراجعة المواقف ومن ثم الالتقاء في منتصف الطريق. أما الإقصاء والعداوة والمقاطعة مهما كانت مبرراتها فهي ستؤدي لا محالة إلى مزيد من التطرف والتمترس خلف المواقف والأفكار، بل والسعي إلى نشرها بقوة وإصرار، كون العداوة برهان عند البعض على صحة مواقفهم ومعتقداتهم.
لا يستطيع أحد كائناً من كان أن يدعي أنه يملك الحقيقة كاملة، وأن غيره لا يملك منها شيئاً، فإذا كنا نؤمن أن الحقيقة هنا وهناك، وأن الآخر مهما تطرف فإنه يملك طرفاً منها، فلم لا نلتقي ونتحاور ونتجادل بالتي هي أحسن كما أمرنا رب العزة سبحانه، ونحاول أن نحاجج خصومنا الفكريين بكل السبل والطرق المتاحة. فإن الخصم الفكري مهما كان فلا بد أن يرضخ للحوار الفكري إن أيقن حسن النية وصدق الطوية وسلامة الصدر والرغبة الصادقة في الوصول إلى نقطة التقاء، وبؤرة تفاهم.
وقد كان الحوار والجدال بالحسنى دأب رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وسلفنا الصالح رضوان الله عليهم أجمعين، ولم يشذ عن ذلك إلا في عصور الانحطاط والتخلف والجهل لغياب العقل الواعي المدرك، والتسامح الفكري، وتغييب العلماء الحقيقيين عن تصدر المشهد، والقيام بدورهم في قيادة الأمة.
ومما راعني في ذات المحاضرة المشار إليها أن بعض الطلبة من الحاضرين طالبوا بردع السلفيين الجهاديين، ووضع رقابة على الكتب والمطبوعات قبل نشرها، مما يدلل على وجود عقلية إقصائية، وهذا مؤشر خطر خاصة من طلبة في أعمار الزهور يفكرون بهذه العقلية التي لا تقل تطرفاً عن عقلية من يطالبون بردعهم والرقابة علبهم. وهذا يضع مسؤولية كبيرة على العلماء والمفكرين وأساتذة الجامعات والشيوخ الأجلاء بضرورة الاختلاط بهؤلاء الشباب والتحدث إليهم والاستماع لهم وترشيد خطواتهم بعيداً عن الرسميات، فعقولهم لا بد أن تملأ، والغلبة لمن سبق، وإن خلو الساحة من أصحاب الحكمة والبصيرة والنهج السليم يؤدي إلى زرع أفكار متطرفة أو شاذة أو غريبة أو تملأ بكل تافه وسطحي وممسوخ.
وقد اعترف سماحة المفتي بتقصير دائرة الإفتاء ووزارة الأوقاف في أداء دورهما تجاه تحصين الشباب وتثقيفهم وترشيدهم، فقد أشار إلى وجود 31 مفتياً فقط، و1800 خطيب مؤهل مقابل 6800 مسجد. وهذا يضع عبئاً ثقيلاً على المؤسسة الدينية الأردنية بضرورة استنفار جهودها لتوفير الكفاءات وتدريبها ونشرها لتؤدي دورها المفترض، ولا تترك الساحة لمن لا يحسنون مخاطبة الناس، ولا كيفية التواصل معهم، يؤدون خطبة الجمعة كواجب ثقيل دون أن يترك أثراً في قلوب أو عقول المصلين.
تقبل الآخر مهما كان فكره وعقيدته دليل على تحضر الإنسان ومدنيته، ويفترض بنا أن نتعامل مع الآخر كإنسان له حق الاحترام والتقدير، وأن يكون آمناً من جانبنا ما دام لا يحاربنا أو يتآمر علينا، لأننا كبشر مهما كانت أفكارنا وعقائدنا وأصولنا وهوياتنا نتوافق على تسعين بالمائة من الأمور، ونختلف على عشرة بالمائة كحد أقصى، فمن الغباء المستفحل والجهل المطبق أن نتمسك بالعشرة ونهمل التسعين!
mosa2x@yahoo.com