زاد الاردن الاخباري -
د.حاكم سلامة المحاميد – محافظ سابق.
لم يكن الاردن جغرافيا خارج الاهتمام الاقليمي والعالمي في يوم من الايام، بل كان في معظم الاوقات في صدارة الاحداث السياسية، الا انه في أواخر عهد الدولة العثمانية أصبح خارج الاهتمام الاداري وخضع في التعامل معه لشرط المصلحة العليا للدولة المركزية ولم يكن أهله في الحسبان.
إنطلقت الثورة العربية الكبرى وإنحاز الاردنيون اليها، وأصبحوا جزء رئيسا منها الى ان وصلت طلائعها دمشق، فأصبح الاردن ضمن مشروعها الجديد الذي تمثل في الحكومة الفيصلية السورية التي أجهضت جيوش فرنسا احلامها في البقاء بعد معركة ميسلون، ليعود شرق الاردن من جديد في فراغ سياسي قام أهله بسدّه من خلال حكومات محلية مرحلية.
جاءت النداءات المختلفة والمتسارعة من قبل اهالي شرق الاردن، ومن خلال مؤتمرات ولقاءات مختلفة، ومعهم أحفاد الثورة في سوريا والعراق للمطالبة بقائد عربي هاشمي يقود المرحلة القادمة، ويؤسس لمرحلة نضالية جديدة بعد أن غادر الملك فيصل سوريا وشرق الاردن.
بعد ان توقفت ثورة العرب في دمشق، وبدأت أحلام القومية العربية بالإتساع، إستشعر الاستعمار ذلك، فقرر تنفيذ "سايكس بيكو" على الأرض سريعا في مواجهة طموحات القومية العربية وقادتها، وعلى رأسهم الشريف الحسين بن علي وإبنه فيصل في سوريا، فدخلت الجيوش الفرنسية دمشق بعد معركة ميسلون الفاصلة .
إنحلت الحكومة العربية في دمشق، وبدأ الفراغ السياسي واضحاً في شرق الأردن حيث تشكلت حكومات عدة لسد هذا الفراغ، إلا أن الخوف من زحف الجيوش الفرنسية إلى الشرق الأردني، وضعف الحكومات المحلية وكثرتها، كان الدافع القوي وراء تداعى وجهاء البلاد للالتقاء في الثاني من ايلول 1920 في أم قيس، وقبلها في السلط، لصياغة تصورهم الأول واشواقم لبناء كيان وطني .
قرر أهل البلاد، ان يكون لهم أمير عربي، يعيد لمشروع النهضة العربية حيويته، يوحد البلاد الأردنية، وان يكون لهم حكومة وطنية مستقلة ، لها جيشها الوطني المستقل، وتمثيلها الخارجي المستقلة فانطلقت رسالتهم لتصل شريف العرب، فيأذن الشريف الحسين لولده الأمير عبدالله بالقيام بهذه المهمة التاريخية حيث البوصلة تتجه نحو شرق الأردن والهدف واضح .
غادر الأمير عبدالله الحجاز متجهاً إلى معان ليصلها في 1920/11/21 حيث كان بانتظاره كل من غالب الشعلان وفؤاد سليم وقائم مقام معان وغيرهم من وجهاء معان وأعيانها، فاستقبل إستقبال الملوك، مما أثار حفيظة بريطانيا وفرنسا، فاعتبروه امرأ خطيراً يهدد وجودهم في سوريا، خاصة بعد أن صرّح الأمير عبدالله أنه جاء لإحياء الثورة التي خمدت في حوران، وأعلن أنه جاء وكيلا ونائبا للأمير فيصل. وفي معان كتب الامير إلى الزعماء المحليين ، وإلى كل ذي رئاسة أو نفوذ من أهل البلاد الموالين للقضية العربية ، وكتب إلى أعضاء المؤتمر السوري يطلبهم الالتحاق به في معان ، فلبى الدعوة الكثيرون وقدم إليه من الشمال احمد مريود ومعه الشيخ مثقال الفايز وحديثة الخريشة وخير الدين الزركلي وحمد بن جازي وعطوي المجالي وسعيد خير وسعيد المفتي وميرزا باشا الذي عينه الامير قائدا عاما لقطاعات الفرسان، وعودة ابو تايه وحسين الطراونة وغيرهم فيما كانت رسائل الترحيب تصل تباعاً, فجسّد وصول الأمير إلى معان التي أضحت جذرا أصيلا في طريق التأسيس، اللحظة الأولى للحوار السياسي الوطني الجامع مع أهل البلاد بشتى منطلقاتهم الفكرية والجغرافية.
ومن "مقر الدفاع الوطني"، المكان الذي إنطلقت منه رحلة تأسيس الدولة الأردنية الحديثة بعد أن إتخذه الأمير مقرا له والذي سمي فيما بـعد "قصر الملك المؤسس"، بدأ الأمير عبدالله بن الحسين ممارسة نشاطاته وإتخاذ قراراته السياسية، نائباً عن أخيه فيصل ملك سوريا الشرعي, وأصدر صحيفة (الحق يعلو) لتكون الناطقة بإسم النهضة الجديدة وعنواناً من عناوين الثقافة والوعي للمرحلة القادمة، فحملت خطابه السياسي والثقافي ودعوته إلى أحرار العرب، ونقلت لهم بيانه السياسي الذي جاء فيه: "كيف ترضون أن تكون العاصمة الأموية مستعمرة فرنسية .. أن رضيتم فإن الجزيرة لا ترضى وستأتيكم غضبى...".
وعلى الرغم من رسائل التهديد البريطانية التي وصلت إلى الأمير بالعودة من حيث أتى، وافق الأمير على تأسيس الكيان السياسي في شرق الأردن، وتمت مبايعته في معان، ثم طلب زعماء الأردن من الأمير التوجه إلى عمان، يقول الامير: "فقد هـرع الناس اليّ يدعونني إلى عمـان فكنت أجيبهم بأنني فاعل إن شاء الله ..." وتحرك الأمير من معان بعد أن ودع أهلها الذين أحسنوا ضيافته وكانوا أهل كرم وجود بكلمات مختصرة: " كلكم يعلم ما جرى في البلاد .. وإننا نرى دماءنا وأموالنا رخيصة في سبيل الوطن وتخليصه, ولقد قطعتم الفيافي والقفار والتحقتم بنا للذود عن البلاد والأعراض, وقد كان سعيكم سعياً مشكوراً وعملاً مبروراً, وهذا شأني فيكم وأحيي شعوركم الصادق ... إني الآن مودعكم وأود أن لا أرى بينكم من يعتري إلى إقليمه الجغرافي بل أحب أن أرى كلا منكم ينتسب إلى تلك الجزيرة التي نشأنا فيها وخرجنا منها, والبلاد العربية كافة هي بلاد كل عربي". ووصل موكب الأمير محطة القطرانة والتقى بأهالي الكرك والطفيلة هناك، وبايعوه مطالبين أن يتشكل في الأردن كيان سياسي عربي تحت إمرة أمير عربي، وفي الجيزة التقى الأمير بأهالي البلقاء ومادبا وقبيلة بني صخر، فأخذ منهم بيعة تؤكد أنهم ينتظرون قدومه بفارغ الصبر، لينطلق بعدها إلى عمان، التي يصلها في ظهر يوم الأربعاء (2 آذار/مارس 1921م) وكان في إستقباله حشد كبير من مختلف نواحي البلاد.
وفي اليوم التالي أقامت بلدية عمان التي كان يرأسها سعيد خير حفل إستقبال حاشداً خطب فيه زعماء البلاد والاستقلاليون وعلى رأسهم كامل القصاب الذي طلب من الحضور أن يعاهدوا الأمير ففعلوا، وخطب الأمير في الجموع التي احتشدت للترحيب به، فقال في الخطاب الهاشمي الأول فوق الأرض الأردنية: "سروركم بنا وترحيبكم لنا واجتماعكم علينا أمر لا يستغرب . انتم لنا ونحن لكم".
وقال الامير شعراً في هذه المناسبة :
وإن قصدت سراة العرب تندبهـم …
منهم أمامـــــك للأرواح قد بـذلــوا
تلك السراة وإن رام الـطغـاة بـها …
شرا وخانوا حقوق العهد لا تكلــوا
فلم تتخـل أبدا عن أصل مبدأهــا …
وليس يعرو قواها الوهن والفشـــل
تواصل السعي لا يثنى عزائمهـا …
خلف الوعود ولا التسويف والحيل
في كل وقت لهـــا سـعي يناسبـه …
وخطة ملؤهـا الإقدام والعمـــــــــل.
وصل الامير الى عمان وبدأ يؤسس لدولة حديثة، فأرتفعت المداميك الاولى بوصوله، وأخذت الحياة الادارية تسير في شرايين الدولة الوليدة، وأصبحت تتسع شيئاً فشيئاً حتى غدت بعد مرور مئة عام على تأسيسها من الدول المحورية في المشروع العربي ومنطقة الشرق الاوسط الجديد.
إنطلقت بناءات التأسيس الأولى بعد ان وصل الامير فعمد الى تاسيس نواة للجيش والدرك لحفظ الامن وشرع بتأسيس دوواين إدارية، وشكل مجلس مستشاريه الاول بعد وصوله عمان بوقت قصير، في 11 نيسان (أبريل) 1921 بدأ يرسم ملامح الدولة ويبني مؤسساتها ويؤسس لتنظيماتها الادارية والتشريعية والسياسية والعسكرية والمالية، ويرسم ملامح شكلها القادم وفق المعادلات الجيوساسية التي وضعت في المنطقة آنذاك، فنهض الاردن مبكراً ليلحق بالعالم ويقود الركب العربي. وبعد ان تشكلت الحكومة الاولى بدأت بالانتباه الى التعليم والصحة والعدل والامن، فشرعت القطاعات الحيوية بالعمل، فبعضها إنطلق من الصفر وبعضها بدأ يصلح ويطور ما كان موجوداً ويبني عليه، لتكشف مرحلة التأسيس في عهد الملك المؤسس عن قدرة عالية لدى ابناء شرق الاردن بالنهوض في بلدهم والاصرار على تطوير مؤسساته، فعند قراءة العديد من المؤشرات الاحصائية لعدد من القطاعات الحيوية نجد اننا حققنا معجزة في الكثير من المجالات رغم ما كانت تواجه البلاد من صعوبات مالية وضغوطات سياسية وحروب مدمرة، كان فيها الاردن في عين العاصفة، ولعل النهضة التي حصلت في قطاع التعليم والصحة والثقافة منذ تأسيس الدولة الاردنية الحديثة حتى الان يعطي مؤشراً واضحاً على سرعة نهوض هذا الوطن وتطوره.
يعرف الأردنيون ان مرور مئة عام على تأسيس هذا الوطن لم تكن تمر بسهولة، وإنما جاءت من خلال رؤية وطنية إستشرف فيها اهل الاردن بقيادتهم الهاشمية واقع المنطقة وظروفها، فعملوا مع الملك المؤسس على تأسيس البنى الراسخة للمؤسسات، وبنوا مع الحسين الباني مداميك الحضور الراسخ، وعززوا مع الملك المعزز عبدالله الثاني بن الحسين القدرة والعزيمة والاصرار على المضي قدماً نحو مئة عام جديدة تتمثل فيها ملامح الهوية والرسالة، ويستمر فيها نهج العطاء والتطور في التنمية والصحة والتعليم وريادة الأعمال والتكنولوجيا، والالتزام بحقوق الانسان وتعزيز الحريات، والديمقراطية، والمؤسسية، ومواجهة التحديات الإقليمية والدولية، من خلال الاصرار والطموح والتي ستكون العناوين الرئيسة للمئوية القادمة التي نسير اليها بثقة خلف حادي الركب جلالة الملك عبدالله الثاني بن الحسين، وولي عهده الأمين.