زاد الاردن الاخباري -
رصد ومتابعة - عيسى محارب العجارمة - (فى السطور التالية تنفرد «روزاليوسف» بنشر فصول من كتاب (دُعاة عصر السادات) الصادر عن دار العين للزميل «وائل لطفى».. الكتابُ يناقش تفاصيل الصفقة السِّيَاسيَّة مع جماعة الإخوان المسلمين والسماح لها بالعودة للعمل، وأثر الدُّعاة الذين تأثروا بأفكار جماعة الإخوان على الحالة السِّيَاسيَّة والاجتماعية للمجتمع المصرى فى العُقود التالية.. يحتوى الكتابُ على فصول الإخوان مثل الشيخ كشك والشيخ الغزالى والشيخ المحلاوى.. وفصل عن موقف الشيخ الشعراوى من قضايا المرأة والأقباط والفن.. الكتابُ هو الثالث للزميل «وائل لطفى» بَعد كتابَيْه (دعاة السوبر ماركت) و(ظاهرة الدعاة الجُدُد)، الذى حصل عنه على «جائزة الدولة التشجيعية عام 2008).
صوت الإخوان
إذا كان الهدفُ من هذه السطور دراسةَ دَور الشيخ كشك فى صناعة التزمُّت والتطرُّف فى المجتمع المصرى خلال سَنوات السبعينيات؛ فالأكيد أنه لعب دَورًا كبيرًا، وعلى المستوى السياسى المباشر كان صوتًا دعويّا لجماعة الإخوان المسلمين، ومن خلال موهبته فى السَّرد والقَصّ، وعَبْر عشرات الخطب تحدّث الشيخ كشك عن رمزَى جماعة الإخوان «حسن البنا وسيد قطب»، كما تحدّث عن التعذيب الذى لاقته الجماعة فى سجون الستينيات ورَوّج لخطاب المَظلومية الذى تبنّته الجماعة ولروايات قادتها عن سنوات الاعتقال.
فـ«حسن البنا» لديه هو الإمام الشهيد وهو اغتيل لأنه فهم الإسلام فهمًا صحيحًا، وهذا الفهم الصحيح هو أن الإسلام دين ودولة، عقيدة وشريعة.. مسجد وقيادة، وعبادة وريادة فلمّا علم الشرق والغرب أن هذا الرجُل خطيرٌ على مصالحه.. كان لا بُدَّ من القضاء عليه.
وهو يروى أيضًا فى إحدى خطبه كيف تم اعتقاله لمُدة عامَيْن بَعد أن رفض تأييد إعدام سيد قطب، فتم اعتقاله لمُدة عامَيْن ونصف العام.
وهو يروى فى خطبة مؤثرة كيف تم إعدام سيد قطب، وكيف أنه فى ليلة إعدامه رأى الرسول (ص) فى المنام قائلًا: (رأى رسول الله (ص) وقد دخل عليه زنزانته فى السجن الحربى والرسول راكبًا فرسًا أبيض، ونزل الرسول عن فرسه وصافح الشهيدَ وشَدّ على يده، وقال: هنيئًا لك الشهادة يا سيد، وانقضت الرؤيا، فإذا بباب الزنزانة يدق دقّا شديدًا ويفتح البابَ وإذا برئيس الجلادين يقول له: قُم الآن واخرج من الزنزانة؛ لأن هناك تسكينًا لك فى زنزانة أخرى.. فقال له الشهيد: والله ما هى زنزانة أخرى؛ إنما أنا متوجّه إلى الله.. ما هو تسكين، وما هى بزنزانة، وما هو بسجن؛ إنما سأخرج من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، وذهب إلى حبل المشنقة وجاء الجلادُ ليربط يديه خلف ظهره، كما يفعلون بمن يُحكم عليهم بالإعدام.. فقال الشهيد للجلاد: «لِمَ تربطنى يا هذا.. أتخاف أن أفرَّ من لقاء الله.. إن بينى وبين الجنة خطوات .. إن خطوتها رأيت رب العالمين».
لك بالطبع أن تسأل نفسَك.. مَن الذى أخبر الشيخ كشك عن الرؤيا التى رآها سيد قطب قبل رحيله، أو عن الحوار الذى دار بينه، وبين سجّانيه، لكن هذه تبقى ملاحظة جانبية.
إذا كان حسن البنا وسيد قطب هما شهيدى هذه الأمّة؛ فإن سنوات الستينيات هى سنوات الظلم والإهمال الذى قاد إلى الهزيمة؛ بل إن الرئيسَ عبدالناصر جاء إلى موقعه للقضاء على الإسلام، وتثبيت مكانة إسرائيل فى المنطقة، وتمزيق الصف العربى.
أمّا النكسة فقد حدثت لأننا كنا مشغولين بلعب الكرة، حتى إن قائد الجيش كان رئيسًا لأحد النوادى، ترك السلاح وانشغل بالكرة، أمّا فى ليلة النكسة نفسها فقد كان الطيارون يقضون ليلة حمراء، وكانوا يحتسون كئوس الخمر!، وكانت الطائرات ترقد على الأرض حتى ضربَها اليهودُ، ومن وجهة نظر الشيخ كشك فإن الهزيمة حدثت: (لأننا نسينا الله فى خمسة يونيو وقلنا إن معنا حديدًا ونارًا يكفى لهزيمة أمريكا)، - وهى رؤية متشابهة مع رؤية الشيخ الشعراوى نجم السبعينيات الآخر، الذى قال إنه سجد لله شكرًا بعد النكسة؛ لأن النصرَ لو حدث كان سيُنسَب للشيوعيين،- إن الشيخ كشك هنا يربط بين النكسة، وبين الغضب الإلهى؛ حيث تأتى كعقاب على إقصاء الإسلاميين ووضْعهم فى المعتقلات. ويؤكد الشيخ لجمهوره أن وزير حربية النكسة كان يقود السجن الحربى حيث كان الشيخ نفسه مُعتقلًا وشاهد عيان، إن وزير حربية النكسة بحسب رواية الشيخ (كان يغتصب الزوجات.. فهل ينصر الله هذا الرجل؟ أمّا السببُ الثانى للهزيمة فهو أن (الشيوعيين كانوا متغلغلين فى الجهاز الإعلامى ولا يزالون).
إن الشيخ لديه عشرات من القصص التى يختلط فيها السَّرد بالميلودراما، بالروايات التاريخية الضعيفة، كى يُشعرَ جمهورَه بفداحة ما كان يحدث فى الستينيات، فهو يؤكد فى خطبة أخرى أن (عبدالناصر رفض أن يستمع للشكاوَى حول اغتصاب سجينة تبلغ من العمر ستين عامًا، ثم طرد من أبلغه). ويقدم رأيه فى تصرُّف عبدالناصر قائلًا: (استهتار بالقيم والمسئولية.. سيدة مسلمة يُعتدَى على عرضها.. والحادث مسجل فى الوثائق الرسمية والذى دخل عليه هو (صلاح الشاهد )، وأبلغه بما جرى.. وبما سيكون وكانت الإجابة وعيدًا وتهديدًا وتوبيخًا وزجرًا ونهرًا).
وفى جانب كبير من رواياته عن الستينيات يتحدث الشيخ كشاهد عيان كان موجودًا فى سجون النظام بالفعل (كان النظام إذا أراد أن يلقى خطابًا ونحن فى السجون فإن الإذاعة تعمل فى السجون بواسطة مكبرات الصوت، ويدخل الجواسيس من المعتقلين لينظروا مَن الذى يسمع خطاب الزعيم وهو نائم على ظهره، فيكتب فيه تقريرًا بأنه لا يحترم كلام الزعيم.. وكان كلامه كله أجوف.. وكان كلامه كله فارغًا.. وكان كلامه يشخشخ فيه الهواء.. كما يشخشخ فى رءوس التماثيل).
أمّا فى خطبة أخرى فهو يروى لجمهوره قائلًا: (حضرت فى سنة 1965 ورأيت ما رأيت فى السجن الحربى من اعتقال النساء وكان معهن أطفالهن.. وكانت الطفلة الرضيع إذا بكت تقول لها أمّها لا تبكى.. لك الله يا هالة.. لك الله يا هالة، ورأينا نساء يُجلدن ويُعلقن من أرجلهن ورءوسهن إلى أسفل، ويُهدَّدن فى الأعراض، وتُطفأ أعقاب السجائر فى مواضع العفة منهن، ورغم أن هذه القصة وغيرَها من القصص لا يوجد دليل عليها؛ فإنها تساهم فى رسم صورة مُظلمة للستينيات التى يكرهها الشيخ كشك ونظام الحُكم الجديد معًا، فضلًا عن أنها رواية متطابقة مع رواية جماعة الإخوان التى كان الشيخ كشك أهم أصواتها الدعوية.
شيخ الفتنة الطائفية
كان الشيخ كشك واحدًا من الشيوخ الذين ساهموا فى اشتعال المناخ الطائفى فى السبعينيات، وكان يَعتبر أن هناك حالة مواجهة بين المسلمين والأقباط، وأن ثمّة مخططًا قبطيّا للانفصال بدولة مستقلة، وكان يَعتبر أنه عدو شخصى للبابا شنودة، ولم يكن موقفه بعيدًا عن المزاج الشخصى للرئيس السادات، التى وصلت مواجهته مع البابا شنودة إلى درجة عَزله من الكرسى البابوى.. وكانت خُطب الشيخ حول المسيحيين تنقسم إلى قسمين.. أولهما خطب يتناول فيها العقيدة المسيحية ويُفندها، والقسم الآخر يُرسل فيه رسائل سياسية للأقباط، وأحيانًا كان يستضيف فى مسجده مسيحيين أشهروا إسلامَهم، أو يُحَدّث جمهورَه عن شائعات يطلقها ضده المسيحيون، من ذلك أنه امتنع عن الخطابة لمدة شهر فأطلق عليه المسيحيون شائعة بأنه تنصَّر بَعد أن رَدَّ إليه المسيح بصرَه.
وفى خطبة أخرى حَدَّث جمهورَه عن الحرب التى يشنها المسيحيون على الإسلام، وقال إنهم منذ فتح مصر لم يجرؤوا على المسلمين بمثل ما يحدث الآن.. ودَلل على ما يقول بأن المسيحيين كانوا يخشون المسلمين قبل ثورة يوليو، بسبب وجود جماعة الإخوان! حتى إنهم فرشوا مَقر شُعبة الإخوان المسلمين فى إحدى القرى، ليس حُبّا فى الإسلام؛ إنما خوفًا من الإخوان المسلمين. وهى رسالة مزدوجة للجمهور الراغب فى الانتصار على المسيحيين بأن عليهم أن يسلكوا طريقَ الإخوان إذا أرادوا الانتصارَ فى تلك الحرب الطائفية.
فى هذا الإطار هاجم الشيخ كشك الكاتب «موسى صبرى» رئيس تحرير الأخبار والصحفى المقرب من السادات؛ لأنه دعا إلى تحديد النسل، واتهمه بأنه مسيحى يريد تحديد نسل المسلمين.
على كل حال؛ فقد كانت الخُطب التى يهاجم فيها المسيحيين موضوعًا لتحقيق إدارى تم معه فى وزارة الأوقاف عَقب أحداث الزاوية الحمراء. كان ذلك إيذانًا بنهاية التعاون بينه وبين نظام الرئيس السادات؛ حيث استدعاه وزيرُ الداخلية لتحقيق قصير، وتحدّث عنه الرئيس السادات فى آخر خطاب ألقاه قبل اغتياله، فى الخامس من سبتمبر 1981، وهو الخطاب الذى أعلن فيه الرئيس السادات عن اعتقالات سبتمبر الشهيرة، التى كان الشيخ كشك واحدًا من المعتقلين فيها، وإن كان لم يهاجمه كما فعل مع الشيخ المحلاوى، قبلها بوقت قصير، كان الشيخ كشك قد أقدَمَ على ما لم يفعله من قبل وهاجم الرئيسَ السادات بالرمز (اتق الله أيها الظالم) لتشمله قوائم المعتقلين فى سبتمبر 1981.
سنوات الصمت
عاش الشيخ كشك ثلاثة وستين عامًا (1933-1996) عمل خلالها كداعية أربعين عامًا كاملة، لكن سنوات تألقه كانت سبع سنوات (1974-1981) منذ ما بَعد حرب أكتوبر، حتى اغتيال الرئيس السادات.. فى خلال هذه السنوات قدّم الشيخ كشك مائتى خطبة مسجلة لاتزال مقاطع منها تُسمَع حتى الآن.. انتهت سنوات لمَعان الشيخ كشك التى ساند فيها خطاب السادات، ونَفذ أهدافه، وهاجم أعداءَه.
جرَى عليه ما جرَى على غيره من الإسلاميين الذين انقلبوا على «السادات» بَعد مبادرة السلام، والثورة الإيرانية، تم اعتقاله فى اعتقالات سبتمبر الشهيرة بدعوى المساهمة فى إشعال الفتنة الطائفية، وهى تهمة ارتكبها الرجل بالفعل.
وقد أفرج عن الرجل ضمن من أفرج عنهم عقب اغتيال الرئيس السادات وتولّى الرئيس مبارك، لكنه خرج من السجن إلى المنزل، انتهت تلك السنوات السُّحرية التى كان صوته يُجَلجل فيها بطريقته المميزة والساخرة؛ حيث كان يستطيع أن يُشعل نيران السُّخرية فى الفنانين والكُتّاب، ورؤساء الدول، التزمَ الصمت حتى وفاته عام 1996؛ حيث اكتفى بتأليف الكتب والرّد على طالبى الفتاوَى فى أوقات محددة عبر هاتف منزله الأرضى، وقد استغل هذه السنوات فى تقديم تفسير مكتوب للقرآن الكريم بعنوان (فى تفسير القرآن)، وفى إنتاج كُتُب أخرى، منها كتاب متواضع القيمة بعنوان (كلمتنا فى الرّد على أولاد حارتنا)، خصصه للهجوم على الكاتب العالمى «نجيب محفوظ» بَعد فوزه بجائزة نوبل، والحقيقة أن كل الكُتُب التى قدّمها الشيخ كشك والتى بلغ عددها 108 كُتُب كانت كُتُبًا متواضعة القيمة ومحدودة الأثر، وأن إنجازه الأكبر على المستوى الجماهيرى كانت خطبه النارية الغاضبة التى لعب من خلالها دورًا كبيرًا فى أسلمة المجتمع من أسفل طوال سنوات السبعينيات، وفى زيادة منسوب التعصب الطائفى، وفى تشويه كل الرموز المصرية المرتبطة بفتره الستينيات، وبالحقبة المُعادية للإسلاميين، كذلك لعبت خطبُه دورًا كبيرًا فى تجميل وجه جماعة الإخوان المسلمين وإعادة تقديمها للأجيال الجديدة التى لم تعاصر نشأتها، وهو أثرٌ امتد حتى الآن دون شَك.
المصدر :- مجلة روز اليوسف