القيادة هي فن وشغف وتضحيات من أجل تجاوز التحديّات الى فضاء المنجزات لتحقيق الأهداف وخدمة الناس، وتحقيق الأفضل لهم وللمجتمع. وعلى مدار التاريخ، شهدت الأمم نماذج ملهمة للقادة الأوفياء الذين أحدثوا التغيير الى الأفضل وكسبوا تقدير واحترام من عرفهم وعاصرهم. وسأتطرّق الى أربعة نماذج في هذه العجالة في ميادين الحياة المختلفة، شدّتني متابعتها خلال السنوات الماضية وأعتقد – من وجهة نظري – أنها تشكّل بعض الأمثلة الرائعة لما يجب أن يتحلّى به القائد من صفات، ليكون قدوة حسنة للشباب. هذه النماذج شاهدت ثلاثة منها في أعمال درامية أحدها حقيقي عبر دراما تاريخيّة وآخران إفتراضيّان عبر دراما اجتماعية (طالما أن العالم الافتراضي قد فرض نفسه علينا في زمن كورونا)، وواحد حقيقي في ميدان الرياضة.
سأبدأ بالشخصية التاريخية التركيّة "أرطغرل" وأعتقد أن الكثيرين مما شاهدوا هذه الدراما التركية قد أعجبوا بمسيرة والد مؤسس الدولة العثمانية، وكيف أستطاع عبر سنوات طويلة حافلة بالكفاح من توحيد القبائل التركية المتفرّقة، وعمل جاهداً لبعث دولة الخلافة الاسلامية من جديد، فكانت ثمرة جهده ونتاج عمله البطولي وضع حجر الأساس لدولة الخلافة العثمانية التي قادت العالم لأكثر من خمسمائة عام. وكم تمنيّت إن يكون هناك مسلسلات تاريخية عربية حديثة عديدة مثل هذا المسلسل التاريخي الدرامي تؤرّخ للعديد من قادة العرب والمسلمين إنجازاتهم وتشجع على بعث أمجاد الأمة من جديد، بعد أن أصبحت في زمننا الحالي مفكّكة ومبعثرة، تعيش على هامش الحياة وعالة على غيرها من الأمم، بدلاً من المهازل الدرامية العشوائية الحالية، والتي تخلو من القيم النبيلة والرسائل الهادفة، فأصبحنا أمة ضائعة نفتقد القدوة، ونتشاجر في الأسواق والجامعات والشوارع والبيوت، ونتبادل اقذع الالفاظ والشتائم دون عفة لسان ولا رادع اخلاقي او ديني، ونتساهل في حمل الأمانة، نتيجة غياب التربية الوطنية والدينية الهادفة، وخلو مناهجنا من تعليم القيم والاخلاق، وعجز اعلامنا وأصناف فنوننا المختلفة عن تغطية ولو جزء يسير من تقصير نظامنا التربوي والتعليمي وما أصابه من تشوّه ووهن وقصور.
والشخصية القيادية الثانية هي شخصية الدكتور أحمد الطبيب السوري التي مثّلها الفنان المبدع أيمن زيدان في المسلسل السوري "يوميّات مدير عام – الجزء الأول" المُنتَج في منتصف التسعينات من القرن الماضي، وكيف أنه تقمّص عدة شخصيات للتخفّي من أجل الكشف عن مواطن الفساد في شركته الحكومية ومعالجتها ومعاقبة الفاسدين، فشكّلت هذه الشخصية مثالاً طيباً لما يجب أن يتمتّع به المسؤول من احساس وسرعة بديهة وحُسن تخطيط وإخلاص ومثابرة وإبتكار لمعالجة الاختلالات في مؤسسته التي يديرها، وهو المؤتمن عليها أمام الشعب وأمام ضميره وأمام الله.
أما النموذج الثالث فهو يتمثّل في شخص طبيب متواضع مجتهد وذكي في مسلسل درامي أجنبي "New Amsterdam"، يقوم بإدارة واحد من أقدم المستشفيات الحكوميّة في الولايات المتحدة، ويحاول من خلال حسن إدارته تسخير كافة الأمكانيّات البشرية والماديّة والتقنيّة المتاحة لتقديم أفضل الخدمات الطبيّة للناس وبالمجان، وإنقاض حياة أكبر عدد منهم، حيث يتعايش مع الأطباء ويمارس مهنته الانسانية كطبيب الى جانب عمله كمدير للمستشفى، ويمثّل لجميع العاملين القدوة الحسنة من خلال عبارته الشهيرة "كيف يمكنني المساعدة؟"، ويشرك العاملين في إتخاذ القرارات كي يتحمّلوا المسؤولية معه. ومن الأعمال الكثيرة التي قام بها، وتبرهن على حُسن الإدارة كيف أنه عالج الترهّل الاداري وأعاد تعيين المهام لبعض الأداريين غير المنتجين، للإستفادة منهم دون أن يخسروا وظائفهم، حتى أن أحدهم كان يعمل في المستشفى ويتقاضى رواتب لمدة سبع سنوات دون أن ينتج شيئاً للمستشفى، فقام بوضعه في وظيفة أخرى ملائمة لقدراته، وتُساعد المستشفى للإنجاز وخدمة الناس. وكم لدينا العديد من الموظّفين الذين يشكّلون بطالة مقنّعة وعبء في مؤسساتنا الطبيّة بشكل خاص والحكوميّة بشكل عام، وخصوصاً في الجانب الاداري؟
وآخر النماذج التي سأستعرضها هو المدرب الحالي لنادي ليفربول الأنجليزي لكرة القدم، وهو مثال واقعي في المجال الرياضي، حيث أستطاع بفضل مهاراته القياديه وعمله الفني الدؤوب وتواضعه وعلاقته الانسانية مع افراد الفريق والطاقم التدريبي إعادة الفريق الانجليزي العريق الى منصات البطولات، فحقق بطولة الدوري الانجليزي العام الماضي بعد غياب حوالي 30 عاماً، وحقق بطولة دوري الأبطال بعد غياب أكثر من 15 عاماً، وكل من يتابع الرياضة ويعشقها يرى كم أن شخصية هذا المدرّب الألماني الفذّ والمتواضع قد أثّرت في لاعبيه وألهمتهم لتحقيق انجازات فريدة خلال العامين الماضيين.
والخلاصة مما سبق أن القائد الحقيقي هو عملة نادرة وموهبة فذّة يهبها الخالق للقلّة، ويتم تشذيبها وصقلها بالعلم والتدريب، وليس كل مدير أو وزير او ضابط هو قائد، فشتان بين القيادة والإدارة، والدليل أن بعض المؤسسات تزدهر في فترة قيادة شخص ما وتخبو وتتعثّر في فترات إدارة آخرين. وتعريفي للقائد النموذجي أنه ذلك الشخص المؤمن بقضيته وواجباته، الذي يتحمّل المسؤولية ويدرك حجمها وأهميتها وعظم تأثيرها في مجتمعه، والذي يفكّر خارج الصندوق للاستفادة من كل الطاقات المتاحة (البشرية والماديّة والتقنيّة)، ويسخّرها لمعالجة الاختلالات، ويلهم العاملين لبذل أقصى الطاقات لزيادة الانتاجية بأسلوب مبدع وبشغف كبير وبكاريزما مميّزة، لتحقيق الاهداف والوصول الى الأنجاز، وكم نحن بحاجة الى هذه النماذج في كل دوائرنا ومؤسساتنا، لكي نعبر بها الى برّ الأمان في ظل ظروف صعبة سبّبها تفشّي جائحتي الفساد والمحسوبية، وزادت عليهما جائحة كورونا التي يمرّ بها بلدنا خاصة والعالم أجمع.