زاد الاردن الاخباري -
كتب: عبـدالهادي راجـي المـجـالي - ... هذا المقال كتبته قديما، ولكني سأعيده... ما عاد القلب يكتب إلا بلغة الحزن فقط، وبحبر الحزن فقط...
كانت أمي وكانت الدنيا والخير، أتذكر مرضها... حين كانت تخرج من جلسات الكيماوي، وأجلس في غرفتي... كان الأطباء يقولون لي وقتها أن المريض بعد جلسات الكيماوي يحتاج لمراقبة... وأنا كان القلب معلقا بها... مثل وردة وجذرها ..أو مثل نخلة ورطبها، وحتى لا أزعجها كنت كل لحظة أطل على غرفتها، ابتكرت طريقة لأعرف أنها سالمة وعلي قيد الحياة... طريقة سهلة جدا يعرفها القلب...
كنت أستلقي على المقعد الذي بجانب غرفتها في دارنا، وأغلق كل الأجهزة الكهربائية التي تصدر صوتا، حتى اسمع (طقطقات) خرز سبحتها، كانت هي المؤشر على أنها بخير... (تك تك تك تك تك)، هكذا تأتيني (الطقطقات)... أمي لم تكن تنم، كانت تمضي ليلتها في التسبيح ..واسمع صوت همسها وهي تسبح (الحمد لله، سبحان الله)... كان هذا هو المؤشر، الذي يطربني... كان أهم من كل صوت وأهم من خبر ..وصرت أحس أن طقطقات خرزها تتوحد مع ضربات قلبي، كل ضربة بتسبيحة و (طقة) من الخرز... الحب له طرقه وأساليبه... وأنا كنت متعلقا بالأمل،وقلت ستمضي.. أمي ستمضي سأداويها بالحب إن لم ينفع الكيماوي...
ذات يوم أخذني الليل والتعب وغفوت، غفوت ويا ليتني لم أغفُ.. وصحوت على طقطات متقطعة، لم تكن تلك أصابع أمي... كيف حدث الأمر؟.. ولكن على ما يبدو اقتربت الرحلة من نهايتها... ونقلتها للمشفى...
كل ما فعلته هو أنها نظرت إليَّ وطلبت مني المغادرة، ولم أعرف لماذا.. كل الأهل عندها حول السرير وكل (العيال والبنات)... ما طلبت من أحد مغادرة الغرفة سواي، وبعد أقل من نصف ساعة أخبروني أنها ماتت... قالوا لي بعد دفنها، أن آخر جملة قالتها لهم : (عبدالهادي قلبو رهيف.. ما بدي ايشوفني وأنا بموت)... لم تخف من الموت ولكنها خافت على قلبي... من موتها...
عشرون عاما، وكل ليلة حين أغفو على مخدتي أسمع (طقطقات الخرز)... عشرون عاما لم يغادرني الصوت، وإن غاب عني ليلة .. اعاتبها بأحلامي أني لم اسمع صوت سبحتها...
وأشكو لها البلد.. واشكو لها الحال، واشكو لها القلب المتعب والخطى القلقة .. والأصدقاء الذين خذلوني والأيام التي لوت شعفة روحي...
أعرف أني مبتلى بالجنون والصخب، لم أولد كذلك هي الأيام التي ولدتني من رحم... مثل فرس حرون ما طوعتها الميادين، وأكابر وجع السكاكين وأمضي... مثل ذئب طريد، لا جرحه التأم .. ولا الصياد كان رحيما..
ولكني ..وأنا على مشارف الشيب والتقاعد، وأنا ألملم أوراقي كي أنهي ضماني الإجتماعي ..وأغادر مهنة كنت ناجحا فيها ولكن هي الأيام من أفشلتني.. من حقي أن اسأل برسم ثورة تضج في ضلوع صدري ..برسم كتاب قرأته لبادي عواد ذات يوم يحمل عنوان : الأردن لمن؟... هل هو للذين يفصلون على أوتار الحكومات وغير الحكومات ..أم لمن اختاروا طقطقات (سبحة) أمهاتهم إيقاعا في الحياة...
الأردن لمن ؟.. للذي لم يجد أوركسترا أو مقطوعة موسيقية أعذب وأحن من (طقطقات) خرز أمه وتسبيحها... أم للذين يعزف اللحن النشاز وينتج من الغاز المسال ترويدة ومن التمويل لحنا، ومن الدولار إيقاعاً.. ومن التصفيق مقطوعة.. ومن الإنتماء لكل دول العالم إلا دولته سيمفونية؟ ..
الأردن لمن؟ لنا نحن القابعون في القرى، في المخيمات، في البوادي ..في المحافظات النائية ؟ أم لمن يقبعون فوق السحب لكثرة سفرهم ؟
ذاك سؤال حيرني... لكني على الأقل، حين أموت وأدفن بجانب أمي في تراب الجنوب الأغر العظيم الكبير الهائل... ذات يوم سيأتي فتى من الكرك.. كان قد عبر من جانب القبور صدفة، وهم يشيعون صديقا .. وربما سيقرأ اسمي على الشاهد .. ربما سيتذكر أن الاسم عبر عليه.. ربما سيتذكر أني كتبت عن القايش والجيش والحب والجدائل الكركية .. ربما سيتذكر.. أن صريعا تحت التراب هام يوما عشقا بالأردن الحبيب... سيتذكر وربما ينصف... وسيضع وردة ويقرأ الفاتحة، وربما تلاوته ستبلل عظامي بعد أن اعياها اليباس...
وستعود لي (طقطقات الخرز) أحلى وأجمل لحن.. سأعود لحضن أمي.. سأعود ذاك الطفل الذي يتعربش في أطراف ( مدرقتها).. كأن تلك الأطراف هي الدنيا، وستشفع لي.. ستمحو كل الاثام .. وستردني إلى حضنها... جسدا من السكر والحب والحياة، وستقبلني ..ما زلت أذكر قبلاتها على رأسي حين كنت صغيرا... وما زلت أذكر دفئها وحنانها وأنفاسها...
أريد أمي فقط... فهذا الوطن أتعبتنا سكاكينه، حد أننا صرنا نشتهي الموت... وتبقى (طقطقات الخرز) ..هي دربي وملتجأي .. والمصير ..
الأردن لمن؟